لم أعرف متى بدأت قصة حبي لنهر “ام الربيع” الذي يخترق مدينتنا “خنيفرة”. هل كان ذلك في إحدى المرات التي جلست بقربه مع أسرتي ، لتمضية أمسية ؟هل وقع ذلك أول ما تذوقت سمكاته ذات الطعم المميز؟أم هل لأني كلما شعرت بالضيق، أقف بجواره فأتصور أنه يقبل تسلم همومي ومن تم يحملها بعيدا إلى مكان ما فلا تعود إلي أبدا؟
أحببت النهر فتعودت الوقوف على قنطرة من القناطر الخمسة المقامة داخل المدينة .هناك كنت ألتقي فتاة بشكل متكرر، بعد فترة ، تبادلت معها الحديث ، فعلمت أنها تدعى”نسرين” ،طالبة في السلك الثانوي، تعشق النهر مثلي، تقطن بجوار النهر لكنها تحب رؤيته أكثر من هذه القنطرة.
أحد أيام فصل شتاء ممطر. فاض النهر عن مجراه، دخل المنازل المجاورة وأخرج منها الأغراض، أفزع الناس في منامهم، قطع أوصال المدينة وأسقط إحدى القناطر المقامة عليه.
كرهت “نسرين” النهر لأنه آذى منزلها وطلبت من عائلتها الرحيل عن البلدة بأسرها .
لم أحب لصديقتي أن تترك بلدتها، لم يرق لي أن تعيش بعيدا عن أقاربها وأن تتغرب عائلتها ، فكرت أن أجعلها تنسى الصدمة فطلبت من أهلها السماح لها بتمضية العطلة معي ومع عائلتي.
هكذا توجهنا إلى مدينة ساحلية ،كانت “نسرين” تمضي أغلب وقتها في مشاهدة البحر،ثم ذات يوم قالت لي:
-لم أتصور أبدا أن تكون للمياه هذه القوة، هذا الغموض ،هذا المد الهائل الذي يخفي ما وراءه. الصوت هنا صعب أن نصدق أنه للماء. حركة المد والجزر لم أرتح لها على الإطلاق هي تذكرني بهموم الدنيا لما نعتقد أنها قد رحلت فنجدها قد عادت أقوى من ذي قبل.
عادت “نسرين” إلى دراستها وعدت أنا إلى عملي،لكني كنت أحرص على الإطمئنان عليها بالهاتف.
خلال إحدى العطل ، اقترحت على “نسرين” زيارتي في الريف حيث أعمل،فوافقت. لما قضت عشرة أيام برفقتي، أحبت المكان: قالت أنه هادئ، يشعر فيه المرء بالراحة، يتوفر على علاقة أكبر بالطبيعة حيث توجد حدائق ، أغنام ، أبقار ، أحجار.، الشمس لا تخفيها بنايات فنراها طوال اليوم .. لكنها أحست أن شيئا ما ينقص المكان ليكون مكتملا . فكرت و فكرت ثم سألتني:
– من أين تشرب الحيوانات ،وكيف تسقى الحدائق ومن أين تأتين بالماء ؟
-من البئر.
-هل يمكن أن نذهب لنراه؟
-بالطبع.
أطلت من البئر، فوجدت الماء يظهر بعيدا ،بعيدا . فأضحى وجهها حزينا، حزينا وأصرت أن تعود لمدينتها في صباح اليوم الموالي .هي لم تخبرني ما بها لكني عرفت الأمر:”نسرين” اعتادت كل يوم لما تفتح نافذتها أن ترى الماء قريبا منها .
لذلك حين سألت صديقتي عن مستجدات الرحيل ،ونحن نشاهد النهر من على القنطرة ،ردت:
– لن ننتقل إلى أي مكان، النهر لا يفيض كل يوم وإن فاض فهو ليس بقوة البحر، أنا أشكر الله تعالى أن وهبنا بيتا أرى من خلاله نعمة الماء طوال اليوم .
هي مثلي إذن أخذ النهر قلبها ولم يعده.
بقلم المؤلفة زين العبدين سناء