ما إن اقتربنا من الوزاني حتى تغيرت ملامح سلمى، لا أحب انكسارها أمامه، و نظرة الفزع في عينيها تحيلني بركان غضب. هذه المرة لن أهادنه ولن أصبر عليه، لن أسلمه سلمى كعادتي وأتراجع.
الوزاني ثقب صغير في طريق إسفلتي بأطراف مراكش عند مدخل الحي حيث تقطن سلمى، والاسم كُنية طريفة نسبة لرئيس البلدية الذي ولد في عهده ثقبا صغيرا استحال بعدها إلى حفرة بعيدة القرار. وسلمى، آه من سلمى ! جمعتنا ملاعب الصبا ومقاعد الدرس وأحلام اليافعين، وفترة خطبة امتدت لسنين ثمان. بعد سنوات الدراسة، حصلت على الشهادة بتفوق، وبحثت بعدها عن وظيفة تمكنني من الاقتران بسلمى. لكن محاولاتي باءت بالفشل. كان الوزاني وقتها قد تدرج ليصبح وزيرا، فشيد مسجدا باسمه و حماما عموميا ومقهى لبث مباريات الكرة، لكنه أبدا لم يلتفت للثقب. نذر الوزاني نفسه لخدمة أهله ومواليه فكانت كل وظيفة في مدينتي تذهب إليهم. ثلاث سنوات صرفتها عبثا أتبارى لنيل وظائف كانت تذهب مباشرة الى مرشحين بربع مؤهلاتي. مرشحون كثير منهم لم يكلف نفسه حتى مشقة الحضور إلى مركز الامتحان. في كل مرة كان ينتابني من الحسرة ما لم تطقه رغبتي بالحياة والحب. وحده صوت سلمى كان يثنيني عن الأسوأ. كانت في مثل هذه الأوقات تقضي اليوم الى جانبي، تهدأ من روعي وتلقي على مسامعي كلمات ملؤها الأمل. وفي المساء كنت أرافقها إلى حيث نفترق، عند مدخل الحي حيث لا نستطيع الظهور معا صونا لسمعة سلمى. كان الثقب يرقد هناك مثل عين متناهية الكبر تراقبني وتحدجني بنظرات ملؤها التحدي. وفي كل مرة كنت أبلع غبني وأتراجع على مضض.
ثم قررت الرحيل. لم تكن سلمى لتترك أمها المُقعدة التي ضحت لرعايتها بكل شيء، ولم تكن أمها لتترك منزلها وأهلها ولتهجر المدينة. لكننا قطعنا عهدا بالاقتران حالما يتسع لي من الرزق ما يكفي لتمويل مشروع نعيش من دخله. وبعد خمس سنوات من الكد عدت لمدينتي، وعدت لسلماي. وقد كان حظي في الغربة أوفر بكثير من حظي في بلدي، لكنني آثرت الرجوع. لاحظت أن أحوال المدينة قد تحسنت وأصبح للبلدية رئيس جديد باشر فور تعيينه إصلاح الطرق وردم الحفر ومن ضمنها الوزاني.
واقترنت أخيرا بسلمى، وكان زفافنا جميلا في كل شيء. وبعد نهاية الليلة غادرنا المحتفلين لنسافر معا في شهر عسل. ركبت سلمى إلى يميني، كان للفرح في عينيها بريق آسر وفي وجنتيها وعد بالنعيم. أدرت محرك السيارة وانطلقنا، ثم ماهي إلا ثوان حتى كنا عند مدخل الحي. وعند اقترابنا من الوزاني لاحظت ظلاما في المكان، كانت أعمدة النور منطفئة على غير العادة. أسكتت المحرك والتفتت تلقائيا نحو سلمى. اختفى الوزاني وكان الظلام يحجب حتى أثره، لكن بدا لي أن سلمى لم تنعتق من سطوته بعد، فقد انطفأ النور في عينيها واستحالت حمرة وجنتيها إلى شحوب. عندها أدركت وسلمى ما يتبقى لنا فعله، أدرت محرك السيارة من جديد ثم رجعت بها إلى الوراء نصف ميل أو أكثر، جمعت كل حنقي وضغطته على دواسة السرعة. كانت تلك أول مرة أعبُر فيها وسلمى فوق الثقب، وكانت الأخيرة. آخر ما أذكره من تلك الليلة شاحنة حمراء يلوح سائقها باتجاهي منبها مذعورا، صوت اصطدام مجلجل، رائحة بنزين وسيارتي تطير في الهواء ثم ترتطم بالأرض لتنقلب مرات لا أذكر عددها.
بقلم المؤلف عزيز الصاميدي