أحمد فتى في السّادسة من العمر، كثير السّؤال و الإستفسار، تَظهر على مُحيّاه ملامح الفطنة و علامات النّباهة، يعيش هنا في هذه المدينة، حيث يرتفع الحصن المنيف، الّذي يُعرف هنا باسم “برج الكِيفان”، نسبة إلى الكثبان الرّملية المترامية أسفله على الشّاطئ، كما يحلو للبعض مناداته “البُرج”.
هو قلعة بحرية عتيقة، بُنيت منذ بضعةٍ من القرون، إبّان الخلافة العثمانيّة، كان ذات يوم يعلوه الحَرس و يعمره الجند و تعلو سَطحه المدافع المَهيبة الّتي شهَرها في وجه كلّ مَن تُسوّل له نفسه الإقتراب من الإِيالة،
كان شامخا هناك، حيث تلتقي زُرقة البحر بزُرقة السّماء، كأنّي به يَرقب الأمواج تِلو الأمواج، يَرصُد ما ورائها مَخافة أن تكون سفينة للمعتدين الّذين ما فتِئوا يحاولون تدنيس هذه الأرض الطّاهرة، و ها هو اليوم لم يزل واقفا هناك، حيث أكل الدّهر عليه و شرب، لكنّه لم يزل واقفا، جدرانه المتداعية يسند بعضها بعضًا، و يشدّ بنيانه المرصوص بعضه بعضًا، تُعفّيه الرّوامس و السّماء، لكنّه لم يزل واقفا.
كان أحمد يسأل أباه عن البرج، ما هو؟ و لِمَ بُني؟ و مَن بناه؟ فيجيبه: بناه الأجداد ليذودوا به عن البلاد،
و حين يلعب مع أقرانه يتسابقون و يتقافزون، هنا و هناك، يستظلّ بظلّ البُرج و يحتمي بحماه، فيحسّ في كَنفه بالأمان و يسشعر السّكينة و الإطمئنان،
كان يُحسّ أنّه تربطه بهذا البرج علاقة مَتينة، علاقة صداقة وطيدة، لقد أحَبّ جدرانه المصفرّة و نوافذه المُتهالكة و أبوابه الخشبيّة،
لقد تَعلّق قلبه به و بكلّ ما يمتّ إليه بصلةً، حتّى بطيور النّورس البيضاء التي تعلو سطحه مُطلقةً صَيحاتها العالية كلّ صباح، بالسّحالي الّتي تتخفّى في أركانه، و بأزهار الصيف المتفتّحة على جوانبه…
و في المَساء، يَصحَب جَدَّه الوَقور في رحلة قصيرة على الشّاطئ المُتلألِئ تحت شعاع الغروب،
كان لا يبخل عليه بحِكَمه، يٌعِدّه لمصاعب الدّنيا الّتي ابتلاها، و لأهوالها الّتي اقتحمها، و يُجيب عن أسئلته و تساؤلاته الّتي لا شاطئ لها و لا قرار، و سأله ذات يوم عن المُحتَلّ الغاشم، كيف دخل و هذا الحصن الحصين هنا؟!
فسَكَت بُرهةً، و تَنَهَّد بِعُمق ثمّ أجابه قائلا: أي بنيّ، لا تكفي الحجارة الصّماء لحماية الأوطان، فلا يحمي الوطن إلّا أهله، و لا يصون الأرض إلّا أصحابها،
أي بنيّ، تُرابنا أحمر بدماء الشّهداء، الّذين جعلوا أنفُسهم الفِداء، و تركوا لك اللّواء، فلا تَخونَنَّ الأمانة و لا تُقصّرَنَّ في أدائها،
مضى، و هو يُعيدُ في رأسه مَقالة جَدِّه الّتي حَفِظها، حَفِظها عن ظهر قلب، و رسخت في ذهنه الصّغير، لكنّه لم يفهم الكثير منها، سيسترجعها يومًا ما، في موقف ما، هو يعلم ذلك، عِلم اليقين، فلطالما أثبتت الأيّام أنّ جَدّه المُجرِّب غالبا ما يكون على حقّ…
بقلم المؤلف أحمد أمين