“صحفي فاشل.. آخر حروف تلقتها أذناي من مديري قبل أن أحصل على قرار بفصلي من العمل، حروف مسموعة تبعتها كلمات مكتوبة، بأني شخص مثالي لا يعيش الواقع..”
ضحكات خفيفة تعلوها عيون محدقة لمائتين من كبار الشخصيات الأدبية الذين يحيطون به، رجل أشيب الشعر يرتدي حلة أنيقة ووردة زاهية، ويستعد لتوقيع الطبعة العاشرة من كتابه (المليون)..
“منذ صغري ولا أسمع سوى كلمة (مجنون)، كنت أدون كل شيء أراه وأسمعه، الكلمة والحركة.. وحتى الأنفاس، كنت أكتب وأقرأ فقط، حتى إذا نفذ الورق، كتبت على جدران غرفتي، وكثيرًا كنت أتلقى ضربًا مبرحًا، ولم أكترث..”
أثارت انتباهه يد ارتفعت، وتبعها سؤال “وكيف جاءت فكرة الكتاب؟”
رد عليها بابتسامة رزينة، وأشار بإصبعه قائلًا: “بنظرة إلى ذلك المكان..”
قرأ عبارات الاستفهام على وجوه الجميع، فأجاب على نظراتهم قائلًا..
“حضرت إلى الإسكندرية بعد إقالتي، كنت بحاجة للانزواء بنفسي بعيدًا عن أهلي، أشعر بالفراغ يملأ أرجاء حياتي، لا عمل ولا زوجة ولا هدف، أغلقت هاتفي وسرت قليلًا أمام البحر، تاركًا أفكاري تتطاير مع ذرات الهواء..
أسير أملًا في العثور على معنى لحياتي، حتى وجدت أمامي مكتبة الإسكندرية..”
-وماذا في مكتبة الإسكندرية؟ قالها أحدهم..
“لم تكن في نظري مجرد مبنى اسطواني يرسل تحية للشمس الساطعة فوق البحار الواسعة، ونصف دائرة زرقاء تدعى القبة السماوية، بل كانت تراثًا عادت له الحياة بعد آلاف السنين..
نظرت إلى الجدران، رأيت رموزًا ولغات عكست حضارات وأجيال مختلفة..
لوهلة شعرت بأني انسان عربي، لا يكفيه ما حمله من تاريخ، فالحضارة وجدت لتجد من يكملها لا من يكتفي بالتفاخر بها، والكلمة المكتوبة تصنع تاريخًا يتوارثه الأجيال، ومرآة تعكس حياة عاشها أقوام بجمالياتها ومساوئها، وكم من أجيال ذابت مع تحلل أجسادها تحت التراب، أضاعها الجهل فلم تجد ما تخلد به ذكراها..”
سألتني صحفية: “وماذا فعلت؟”
“قررت أن أجمع مليون فكرة تحمل تراث هذا الشعب، فيم يفكر؟ ومم يعاني؟ وكيف يرى المستقبل؟ نويت أن أدون قول مأثور لجميع طوائف الشعب، من الأثرياء إلى البسطاء، من ذوي المناصب العليا إلى الحرفيين، عالم دين ومتبني فكر وحامل قلم، وشاب يجلس في القهوة وآخر تشققت يداه من الكد في العمل، زوج ورب أسرة، امرأة ثكلى وأخرى أرملة، طفل متعلم وأخيه أمي..
سافرت بين المدن والقرى، طفت بين بلدان مصر، القصي منها والدني، وسرت من شمالها إلى جنوبها وشرقها إلى غربها، عاشرت أبناء المدينة وزرعت مع الفلاحين وألقيت الشباك مع الصيادين وجلست في مجالس العرب للصلح بين قبائل البدو، ورسمت صورًا مع أبناء النيل في محافظات الجنوب، ورقصت بـ”التحطيب” مع الصعايدة، وأطربت أذني بأنغام “السمسمية” من شباب بورسعيد.. حاورت علماء ومفكرين ودخول دور ثقافة ومهرجانات فنية، وحتى أطفال الشوارع والسجون.”
وأطلق من أعماقه تنهيدة طويلة، ثم قال “ثلاثون عامًا من عمري، رأيت فيها مصر كما أتمنى أن يراها اخواني من بني البشر، وجمعت مليون مقولة في كتابي، وسأتركه للتاريخ كي يشهد على تراث شعب ولغة باقية صنعت للمجد اسما وعنوانًا..”
التهبت الأيادي بالتصفيق، ووقع الأديب على كتابه، ثم ألقى نظرة طويلة نحو نافذة القاعة، فرأى الشمس تعكس جدران المكتبة، وقال “دمت فخرًا يا شعاع الحضارة.. دمت عزًا يا مهد التاريخ”..
بقلم المؤلف محمود خالد عبد الجواد