كان محتمياً بما تبقى من ركام المنزل , عيناه تحدقان في المدى المرسوم أمامه تترقبان أي حركة تثير الدهشة كانتا كلما لاح شيء في هذا الأفق تزداد أحداقه لمعاناً , يتربص الوقت منتظراً اللحظة المناسبة مثل الصقر تماماً عندما يريد الصيد لا يشغله شاغل عن فريسته , يحبس أنفاسه ويرصد عدد الثواني بين الشهيق والزفير , يستطيع أن يرسم سداً عاتياً من التركيز أمام سيل الأفكار التي ترتطم بجدار مخيلته بين الفينة و الأخرى , في هكذا لحظات يستطيع أن يشتلع قلبه من بين أضلاعه فلا يكاد نبضه يُسمع وحتى تلك الخفقات التي تبقيه على قيد الحياة لا تسطيع أن تمنحه البقاء على قيد الإنسانية , لم يستطع أن يبعد فكرة الموت عن مخيلته فهي الوحيدة التي تنجح مراراً وتكراراً بأن تخترق جدار التركيز الذي بناه , قي تلك اللحظات يرتسم في ذهنه مشهد النهاية هل هي من رصاصة طائشة متهورة أو من شظايا قذيفة ,كانت هذه المشاهد تداهم مخيلته تجعله رهينة كل لحظة التي يعتبرها هي الأخيرة .
ماهي إلا بضع ثواني يتسلل إلى مسمعه صوت هدير يقترب شيئاً فشيئاً , يبتلع لعابه بكثير من الحذر ينصت إلى صوت اللعاب حين يسري عائداً باتجاه حنجرته, لكن دون أن يغفل عن صوت الهدير الذي يقترب من المكان .
مثل أفعى يتحرك بمكانه, تسارع النبض يزداد مع اقتراب الطائرة التي سيطغى هديرها بعد لحظات استطاعات عيناه أن تراها وقبل أن يسدل عيناه إلى الأسفل بقليل, يتبعها صوتها الجارف الذي يمحي كل الأفكار بلحظة دون سابق إنذار يتوقف العقل ويعلو صوت جنون هذه الحرب مدوياً ويترك من بعده صمتُ يتخلله صوت النبض الذي لايدل على شيء وإن دل على خوف يمزجه فرح عارم بأنها ليست النهاية .
يمنح نفسه حرية الإبتسامة.
الشيء الوحيد الذي لم يتغير هو تلك النظرة والتي لم يتغير مسارها أبداً .
وأصبعه التي لا تحيد عن زناد سلاحه, وأي مقاتل في هذه الحرب يعرف الراحة .
باغته صوت الإنفجار في هذه اللحظة تخلى عن كل شيء وانتزع نفسه من مكمنه وراح يشق عباب الأرض ركضاً وجميع الصور اختلطت في مخيلته ربما نسي أنه صنف بشري لم يعد يبالي بما تبقى له من العمر ولم تعد فكرة الموت تطوق خياله كل مايشغل تفكيره هو أن يتبع رائحة الموت التي تمتزج بعبق الدم وخطواته المتسارعة تطحن ماتبقى من ركام هذه المدينة وسلاحه في يده وأصبعه لا تحيد عن الزناد .
في كل مرة كان يركض فيها كان يشتم ذاك{ النيكوتين}الذي يسري برفقة الدم يشعره بالتعب لكن عاهد نفسه ذات يوم أنه لن يتوقف أبداً قبل أن يتوقف القلب نفسه عن عمله كان يراهن على مابقي من حياته .
ماهي بضع خطوات حتى وصل موقع الإنفجار صوب فوهة سلاحه اتجاه الحشد الذي خيّم فوق الركام ينتشل بقايا بني البشر وضغط على الزناد , نعم مقاتل من نوع أخر راح سلاحه يعتقل تلك اللحظات ويحفظها في ذاكرة الكاميرة لأن ذاكرة الإنسان لا تطيق الاحتفاظ بها كانت تلك الصورة هي الطلقة ماقبل الأخيرة .
التي تمنح تلك الأجداث خلوداً لا نظير له وأخر من ارتسمت صورته أمام العدسة صبي كلله غبار هذه الحرب يمسح ماتبقى من عطر دمائه عن وجهه لم يبك قط لكنه أبكى العالم .
بقلم المؤلف أحمد خضر أبو إسماعيل