ساحة الأسود

Place 1er novembre, Oran, Algeria

البعض يدعوها بساحة أول نوفمبر، والبعض يدعوها بساحة السلاح (place d’armes)، لكن الأغلبية حولوا اسمها في اللفظ الشعبي إلى (place dames) ثم ترجموها جزافا إلى ساحة النساء، ساحة لا تقعد فيها امرأة واحدة.

لكن بالنسبة لي، هي ساحة الأسود، المكان الذي يقف فيه أسدان شامخان هما رمز المدينة، مترفعان عن كل الضجيج تحتهما، أسميت الأول شمس، والثاني قمر، إسمان مبتذلان أتت بهما طفلة، لكنني تعلمت أن الأشياء جميعها لها أرواح، يكفي أن تجد اسمها لتتحدث إليك…

لم يكن أبي من علمني هذا الدرس، فهو كان يكره الأسدين، يراهما صنمين سيجلبان خراب المدينة، ولم يعلمني إلا شيء واحدا في حياته، أن الله يغفر الذنوب كلها إلا أن يشرك به، لم يشرك أبي، لكنه ارتكب ما دون ذلك جميعا…

معلمي في الحقيقة رجل لا أعرفه، كان يصر أن الأسماء شر لا هدف له إلا تفريق البشر، فتخلى عن اسمه، أذكره دوما في ذات الصورة، قميص ذهب كل لونه ثم اسود من النوم على الأرصفة، شعر قذر ووجه تكاد لا تتبينه تحت طبقات التراب، كنت أصغر من أحكم بالمظاهر فأحببته، وهو بدوره علمني كيف أحب…

-“إنها تحبك” قال مرة وهو يحدق في الأسود

-“أحبها أيضا”

-“كلا، أنت تحسبين أنك تحبينها”

-“بل أحبها!” صرخت كما يجب لطفل أن يفعل حين يشعر أنه يستخف به

“-الجميع قال هذا، لكنهم جميعهم ذهبوا”

-“لكنك هنا؟”

-“أجل، أنا رفضت أن أنسى، فنُسيت بدوري” قالها كما لو أنه يحدث نفسه، وما كنت لأفهم حينها لو كان يحدثني…

أبي تماما ككل شخص آخر لم يكن يحبه، وجدني أكلمه مرة وغضب مني بشدة، وبخني، ثم ضرب أمي… هو لم يضربني في حياته قط، إن انخفضت درجاتي، إن تأخرت عن البيت، مزقت سروالي أو تشاجرت مع ابنة الجيران، كل خطئ ارتكبته كان ينتهي كدمة فوق جسم أمي، لكنني مع ذلك لم أرها تبكي قط.

-“البكاء للأحياء لا للجثث”

هذا ما قاله صديقي عندما سألته عن الأمر ونحن مختبئان خلف أسد كي لا يرانا أبي. غضبت منه، “أمي ليست ميتة”، ضحك بينما انهمرت دموعي، ولم أعد لرؤيته غدا.

ذهبت إليه بعدها وقد سرقت علبة أرز من البيت كي نرى الطيور معا، كان الوقت عصرا، وقته المفضل لإطعامها، لكنه لم يكن هنالك، رغم أن الطيور هي الأخرى كانت تنتظره، قعدت حتى غابت الشمس لكنه لم يأت، لا يومها ولا في أي يوم لاحق…

هكذا صرت وحدي من يذكر الأسدين، أجلس تحتهما لأطعم الطيور كل عصر بحفنة أرز آخذها خلسة من البيت، كنت إن جلست تحت أحدهما اليوم أجلس تحت الآخر غدا، لم أشأ أن أكون كأبي، يقضي الأسابيع مع زوجته الثانية وليلة مع أمي يترك لها فيها الكدمات، لكنها لم تهتم، في الحقيقة لا أذكر أن أمي اهتمت بأي شيء في حياتها، لا بنفسها، لا بأبي، ولا حتى بي، لذلك عندما ماتت في النهاية، بدا الأمر كما لو أنها أخيرا سئمت التظاهر بالحياة.

باع أبي ما كانت تملكه من بضعة أساور وقرطي أذن، ثم ذهب إلى الحج، غسل ذنوبه وعاد طاهرا في ثوب أبيض.

مات أبي بلا ذنوب، ودفنوه بجوار أمي…

وقفت عليه ساكنا قربها كما لم يفعل في حياته قط، “دعينا نسمي القبر، سيعرفنا عندما نعود ويهتم بأبي”
قلت هذا لابنتي الصغيرة، لكنني كنت قد كبرت، وما عادت باستطاعتي زيارة الأسود.

 

بقلم المؤلف مولي كوثر