الغريق يتنفّس

2

وقفت تحدّق ببندقيّته المعلّقة على حائط الذّكرى ..أيقظت ماضيها فأنفتح لها بابه..ما إن تخطت عتبته حتّى انطلقت خلف أسراب اليمام. كانت حركة السّحاب تتسارع في سماء الظهيرة..تعثرت خطواتها فجأة وهي تسمع صوت الطلق قريبًا منها. دوّت بصرخة من خلجان أعماقها وهي ترتعش..كانت تعلم أنّ رصاصة الصيّاد لا تخطئ الهدف؛ كأنّما أصابتها بدل تلك اليمامة الغارقة في دمائها. فجأة أحسّت بيد تلامس كتفها، إستدارت فلم تجد أحدًا، تنفّست بعمق..تأوّهت من مدخنة قلبها..كان ذلك طيفه الّذي أخرجها من أوجاع الذّكرى. إستفاقت و يدها تخلع باب الكوخ الّذي ظلّ يعزف نشيد البرّية الموحشة. إنطلقت حتّى أدركت رموش الشّمس، راحت تغرس أمنياتها..توقد أشواقها لتتجاذبها برودة القمر ليلًا، تأخذها بعيدًا حيث أنصاف البشر. قريبًا من صخرة الإنتظار، حطّت البومة لتنذر بشؤمها، خاطبتها وهي متوجّسة ممّا يحمله الغد:

-أغربي من هناك وخذي شرّك معك..وضعت يدها فوق القلب الصّغير الّذي كان ينبض.

في أحشائها..أحسّت ببعض الإطمئنان، تحرّكت شفتاها بشيء من الدّعاء و راحت تجرّ ثقل البعد و الحرمان عبر أزقّة الوحدة، في لحظة بدأ السّواد يزحف و يخفي ملامح القدر حتّى تشرق شمس المجهول.

في الدّاخل قابلتها من فتحة السّقف سماء ملبّذة بلا نجوم..تهاوت من رحمها قطرة فأنبتت صبرًا..عانق الألم فأثمر لذّة. إستسلمت بعد لحظات من صفاء الرّوح لأفيون الإرتياح، تحرّرت عصافيرها من قفص السّبات فيما ظلّت عيناها محنّطة بالسّهاد. إستنارت أكثر مدنها ظلمة فيما انطفأت هنالك في درب الفجيعة..إنحنت رؤوس المرافقين صمتًا في زمن كانت الأطياف تتبادل أمنيات أصحابها العالقة..عمّا قريب سيصلها موكبه الحزين من نفس الدّرب التي حملتها إليه ذات يوم..حين حقّقت أمنيتها في أن تكون آخر يمامة يصطادها حيّة..لكنّه وضعها سهوًا مع خراطيش البارود فصارت حياتها ملغّمة وأرض قلبها لا تقو على الإهتزاز.

قبل انبلاج الصّبح كان الحدس يتلقّف الوجع..ذلك الكابوس الموميائيّ الّذي ظلّ يطاردها في الحلم و اليقظة. كانت قلاع الصّمت تنهار في صحرائها العطشى..أخيرًا أيقنت أنّه لا هروب من القدر. إلتفتت إلى الباب دونما حركة من عينيها..لمحت طيفه يمدّ يده إليها قبل أن يبتعد شيئًا فشيئًا نحو الخارج..خرجت عن جلدها و راحت تلاحقه..ما إن تفطّنت لقدميها حتّى وجدتهما تطآن نفس المكان الّذي حمل البومة قبل ذلك اليوم. رفعت نظرها هذه المرّة إلى ما وراء الوهدة فلمحت ما لم تصدّقه..كانت الشّمس قد بدأت تكشف عن وجهها و ذلك الموكب ذو النّفر العظيم..إندهشت وخفق القلبان في أحشائها..إرتطمت دمعتها بالتّراب الّذي سيحتضنه قريبًا حاملة معها دعاء الرّحمة. في تلك اللّحظة إبتعد ضميرها عن الحيرة و توقّف عند محطّة الوفاء. قرّرت أن تكرّمه على طريقتها فعادت إلى الكوخ لتتزيّن. في طريقها طارت أسراب اليمام لآخر مرّة معزّية..أكملت خطواتها حتّى أدركت المرآة..أخذت تحفر له وطنًا في عمق بحيرتها..تحيطه بسياج الكحل مع الأشياء الخالدة، حتّى لا تجرفه السّيول إلى الماضي. حين امتزجت لديها لوعة الفراق بألم المخاض، لم تكن بقدرة أحد أن يخمد نارها سوى شلّال الرّحمة الّذي لا ينضب..صرخة المولود الّذي غمر الحياة هدوءًا و سكينة، ضمّد الجروح و أحيا النّبض.

 

المؤلف:

طيوان  صادق

كاتب قصص يميل إلى أسلوب التكثيف كتب قصص كثيرة بإحدى الأسبوعيات الوطنية ما بين سنتي 1995و1996 من المأخوذين بكتابات غاذة السمان يحب إنجاز وتطبيق الأفكار الجديدة في الديكور..

اختر مغامرتك

لم تكن تستهويها فكرة وضع

أ) تذكار دائم لخشونة زوجها الراحل.

ب) سبب لبقاءها على قيد الحياة.