وضع يديه تحت رأسه وهو ينظر إلى السقف الذي بدأ ينقلعُ طلاؤه، بعد أن ألقى بجسده المنهك على فراش بارد زاده تعبا.. كان في عينيه بريق من حنين، أو لعله حزن أثقل كاهله، فغاب ببصره بعيدا حيث كان صغيراً..استيقظ باكرا ذلك الصباح، فشعر بنغصة في قلبه لكنه لم يأبه لها، خرج إلى الحي، ودَّ لو يلعب مع أصدقائه لكن شيئا ما منع حركة قدميه، نظر إليهم طويلا وهم يركضون ويضحكون، فمر بجانبهم وسار بخطوات ثقيلة نحو النهر الذي طالما حدثه بأحلامه.. للحظة شعر بدمعة تنزل من عينيه ساخنة على خده البارد الذي امتزج لونه بالحمرة والزرقة من تأثير الرياح التي تهب شرقا..جلس واضعا رأسه بين ركبتيه وهو لا يدري لحزنه سببا .. هذه المرة لم ينظر في مياه النهر التي تشق طريقها نحو البحر الواسع، وهو لم يتأمل في سرب الطيور المهاجرة من شجرة لأخرى، ولم يتساءل كعادته من أين يأتي الحليب الذي تحلبه نساء قريته من الأبقار..! لم يفكر في أيٍّ من هذا، بل لم يكن يفكر في شيء..شعر فجأة بصوت في داخله يقول له: “ارجع إلى المنزل”، استجاب في الحال وراح يركض مسرعا والدموع تهطل بغزارة من عينيه..لكنه أبطأ من سرعته لما أبصر أهل قريته مجتمعين أمام منزله وهم يرمقونه بنظرات الشفقة..علم حينذاك بوجود خطب ما، سار بخطوات ثقيلة نحو الباب المشرعة، دخل فإذا بأمه ممددة على السرير بجوارها أخته تبكي وتصرخ باسمها، نظر في وجه والدته فإذا به شاحبا هزيلا وقد تكونت هالة سوداء حول عينيها، كانت ما تزال على قيد الحياة لكن وجهها لم يكن يوحي بذلك..نظرت إليه فإذا بنظرتها تنطق بؤسا، أشارت بعينيها أن يقترب منها وفعل، فهمست في أذناه قائلة :”أي بني لا تدع زيتونة زرعها أجدادك أن يستعملها أحد غير أبنائهم…حافظ على زيتونات قريتك.”..أنهت الأم كلماتها المتلعثمة لترحل بعيدا حيث المجهول..ظل واقفاً جامدا في مكانه، صرخت أخته وولولت، هجم أهل القرية على المنزل مندهشين، تكاثرت الأصوات وارتفع النحيب..لكنه من مكانه لم يتحرك، لم يبعد عينيه عنها للحظة واحدة، إنه ما يزال يراها وهي تردد آخر ما نطقت به..فقط ينظر ويتذكر…فجأة أحسّ بصفعة قوية على خده أيقظته من سباته العميق، ولما فتح عينيه وجد وجهه قد اصطدم بجدار الغرفة، وإذا بالهاتف يرن:
-“السلام عليكم..أين أنت أيها الغريب؟!..لا تقل لي أنك لازلت نائما.”
-“وعليكم السلام..لا لا إنني في الطريق..”.
-“أسرع إذن وإياك أن تنس البندقية.”
-“أية بندقية..؟!”
-“عزيزي أنت لست في الطريق..اذهب واغسل وجهك أولا ثم تذكر بعدها أننا ماضون لتحرير زيتونات أجدادنا…”.
بقلم المؤلفة سمية المصمودي