خطاب القائد المُفدّى كان يُذاع في كل مكان كنفخ البوق، يسأل عبر الشاشات: “من أنتم؟!”. السؤال الوجودي التزمت به المقاهي والمحال في انتظار أن يخرج هؤلاء الذين يتحدث عنهم القائد من منافذ مكيفات الهواء والتي قلّ استخدامها بعد زيادة فواتير الكهرباء.
الشارع المظلم هو المسلك الوحيد لغرفة “رفيق”، أخبرني سيد نجمة، صاحب الكشك المجاور لغرفته أن القائد يلقي بيانه من موقع قريب، وكشف لي عن تمنيه القديم بأن يلقاه، ثم أخبرني أن رفيق لم يبرح منزله منذ أسبوع. أعطاني ورقتي بفره ثم تمتم: “يبقالنا يا باشا”، وانصرف لسؤال القائد الأعلى في التلفاز: “من أنتم؟!” وهو يزم على شفتيه إعجاباً، فأواصل السير مبتعداً.
يُطبق الضيق على جدران الشارع المحاذي لشريط المترو، قرب ضريح شهير لزعيم سياسي، شعارات ضد القائد وشعارات أخرى ضد من يشتمون القائد وشعارات ثالثة ضد الأثنين في تلاحم وطني مؤثر. بيّد أن تلك الوطنية يبول عليها المتجهين للسلالم العابرة للناحية الأخرى من الشارع المشطور بالقضبان.
أهرب لرفيق من نوبة الرحيل التي تجتاحني ليلاً وتمنعني من المكوث في مكان واحد فأبقى متواثب من لا وجهة إلى لا وجهة أخرى. آما أصدقائه فيغفلون عنه إلا إذا شاركهم الهيروين الردئ الشهير بالـ”البيسه”، يلازمها منذ سرحوه من العمل بسبب الأزمة الاقتصادية، يتناول السيجارة بيدٍ مرتعشة وجسد فقد اتزانه، يتذكر الثورة ثم يسب الحاضرين.
كان جلياً على وجهه الشاحب أن ليالي من حَقنْ البيسه كانت عنوان الفترة السابقة. طلبتُ غلق التلفاز الذي يذيع خطاب القائد وسؤاله الأشهر، ابتلَع قرصين وشرع يلف سيجارة قائلاً إن بلادنا تواجه المؤامرات وعلينا بالحشيش استعداداً للحرب. أغلب الأحيان كنا نلتهم الوقت بمشاهدة القطارات تمر أمام الغرفة، نجلس متلاصقين أمام النافذة الصغيرة في مستوى أرجلنا لننتظر القطار القادم، تتراقص بين أناملنا سيجارة حشيش وفي رؤوسنا أقراص مُهرَبة ونغني “ليتك كنت هنا” لـ Pinkfloyd.
عشرينيات رفيق أوشكت على النفاذ، كمنافذ وسط مدينتنا في ليلة اشتدت فيها طلقات الخرطوش، يقضي أغلب وقته مع شحاذين الشوارع، يتلحفون من البرد بمعاطف غاليه لا يخفي الوسخ قيمتها، ويحقنون البيسه ثم يسقطون في نوبة ضحك قبل أن تلاحقهم دورية الأمن.
لدى خروجي من الحمام كانت فتاة تخلع أغلب ملابسها وتشعل سيجارة حشيش بقداحتي، وأخرى تتنزه أناملها نحو قضيب رفيق. يواصل هو الاستماع للقائد وهو يطلب من الناس التبرع لبناء المستقبل ناصحاً إياه -الشعب- بعدم الاستماع لأحد سواه –القائد-. وبعد صمت صاح: “من أنتم؟!”، فسقطنا في ضحك وحسرة.
خلع رفيق كل ما كان يرتديه إلا لباسه الداخلي قائلاً أنه سيتبرع به للوطن، وأن بلدنا ستصبح أجمل البلاد ولن يضاجعها غيرنا! ثم ألقى بملابسه من النافذة على القطار القادم، صارخاً في الركاب أن يقبلوا عطاياه فداءً للقائد، فيما ركعت الفتاة تمصّ قضيبه بنهم، والأخرى طحنَت قرصاً مهدئاً قسمته سطوراً على بطاقة هوية رفيق نفذَت لأنفينا عبر ورقة نقدية فئة 200 التصقت بشكل خاطف بين نهديها الممتلئين لتبدأ معي وصلة من القُبل.
ظل رفيق يردد شعاراته، رافضاً مقولاتي بأن ثورته ماتت وأن عليه العودة لقريته بشهادته الجامعية وخبراته خائب الرجاء. وصرخ ضاحكاً: “بلادنا سوف تحيا” وضحكت الفتاة في حضنه وهو يعطيها سيجارة الحشيش قبل أن يهمْ بالخروج لتلتقط عيني جنوناً في مقلتيه، ومسدساً يتدلى من خصره، فيما كان القائد يزأر في التلفاز: “من أنتم؟!”.
بقلم المؤلف كريم كيلاني