المبنى الأصفر

1-4

لا يزال كما هو، رغم أن صفرة الجدران قد أصبحت قاتمة من تراكم الأتربة، إلا أن ما يحسب لهذا اللون هو صموده كل هذه السنين ….

وقفتُ أمام المدرسة، رحتُ أتذكر، تذكرت كل شيء، عندما قمت بالتحويل إلى هذه المدرسة، بعد محاولات مستميتة لإبقائي في المدرسة التي بنيت حديثاً بالقرب من منزلنا، محاولات مستميتة من الجميع، حتى الحكومة، حاولت إبعادي عن مدرستي الحبيبة هذه، فرضت على كل شخص القيد في المدرسة التابعة لمنطقة سكنه. وهكذا تم نقلنا إلى المدرسة الجديدة، بعد أن أمضينا عاماً هنا.

ورغم أن المدرسة الجديدة وسط القرية، وتحيط بها الأشجار والنخيل من كل جانب، إلا أنها من الداخل تبدو كصحراء جرداء، لا ورود، لا أشجار، لا عصافير، فقط ملعب تغطيه رمال صفراء يحده سور أنيق، وجديد لكنه بلا روح.

أما هذه المدرسة القديمة، الحبيبة، ذات الجدران الصفراء الكابية، فتقع فريسة وسط غابة من العمارات والأبنية الخرسانية في قلب المدينة، إلا أنها من الداخل تبدو كواحة خضراء، بها حديقة غناء تحوي مختلف أنواع الأزهار الملونة والنباتات الرقيقة، كنا نستمتع بالجلوس على مقاعدها الخشبية في حصة الزراعة، وفي حصة التربية الرياضية كنا نستمتع باللعب في ملعبها المزروع بالنجيلة الخضراء والمحاط بأشجار الكافور الشاهقة التي تمت زراعتها منذ إنشاء المدرسة.

عندما توجهت للناظر طالباً أن يسمح لي بالتحويل إلى مدرستي الأولى، اغتاظ بشدة، فهو يعتبر المدرسة القديمة منافسة له، لذلك أمر بشراء مكبر صوت لكي يرتفع صوت الإذاعة المدرسية ويصل إلى مسامع من في المدرسة القديمة كنوع من التحدي والرد على صوت إذاعتهم الذي يصلنا في الطابور، لكن عندما رأى في عيني الإصرار، استسلم بغضب: هات ورقة بإمضاء ولي أمرك!

عرضت الموضوع على والدي، رفض بشدة، وكان ذلك مع نظرات استحقار وكلمات مغموسة في البصاق. أصر على أن أبقى في المدرسة الجديدة الفخمة، لا لفخامتها وأناقتها، ولكن لأن المدرسين الذين يعملون بها معظمهم من أقرباءه وسيقفون معي في الشدائد الامتحانية.

قمت بتزوير إمضاء والدي…وكانت هذه أول جريمة تزوير أرتكبها في حياتي………

كعصفور فر من القفص، …طرت إلى مدرستي الحبيبة،…..لم أنتظر حتى اليوم التالي…

فوجئ المدرسون، لم أتوقع أن يثير الأمر علامات استغراب هنا أكثر مما أثار في المدرسة الجديدة التي هربت منها، أصبحتُ حديث المدرسة بكاملها، كل مدرس يأخذني على جنب ويسألني عن سبب تحويلي…، كانوا يكررون نفس الكلام ونفس الأسئلة، لماذا تركت مدرسة جديدة فخمة بمقاعد حديثة بها أدراج مزودة بأقفال، مما يعني إمكانية ترك الكتب بها وعدم تحمل عناء حمل الحقيبة الثقيلة كل يوم، كيف أتركها وآتي إلى هذه المدرسة ذات المقاعد المتهالكة الملصمة والجدران المشروخة؟

كانوا يتحدثون جميعاً عن أمور مادية بحتة

المقاعد، الأناقة، السبورات المتقدمة، السلالم غير المكسرة، الفصول الكثيرة التي تقضي على التكدس

ولم أكن لأستطيع أن أقول لهم السبب الحقيقي وراء تحويلي،

لأنه شيء أبعد تماماً عما يتحدثون عنه،

إنه شيء روحي سام رفيع حتى أني كنت أخجل من ذكره…..

إنه حنيني لأصدقائي وعدم قدرتي على الابتعاد عنهم

الآن، ها هم أصدقائي يضربونني من وراء ظهري، ثلاثون عاماً مضت على صداقتنا في هذه المدرسة…..

الآن أصبحوا أعداء…..!

 

بقلم المؤلف علي فتحي

اختر مغامرتك

لا توجد أي ذريعة للتفكير بأن الرجال الذين يتسمون بالإحساس المرهف لا

أ) يستحقون هذه السمعة الطيبة.

ب) يمكنهم المطالبة بحقهم في لمس الوتر الحساس.