أبي لن يعود

Roman ruins in Bir Kasdali, Algeria

—لِكِيْ، لِكِيْ، لِكِيْ..

—ماذا دهاك؟

—أسمعُ صوت قلبك الخفيْ.

—لستَ ماموثا يا رجل، لا تُصدِّق كلّ ما تسمع!

—وما علاقة الماموث بالموضوع؟

—الماموث لديه قابلية عالية لتصديق أيّ شيء، لذلك لم يستطع حماية نفسه من الانقراض، كان يسمع الاشاعات عن قدوم عاصفة ثلجية، فيمكث في الداخل حتى يتجمّد! الماموث لا يواجه..

—مسكين!

—حسنا، أنت لديك حسّ مرهف، تحتاج إلى الغناء.. إبدأ الآن وغن لي “تيرا را را” بصوتك الجميل..

—“لِكِيْ” أرجوك توقف واجلس إليّ، لا أدري حتّى كيف تجرؤ على مقابلتي بكلّ هذه الحياة، وكأنّك تريد أن ترقص! أن تطير.. قد كنت حزينا لأجلك كثيرا، كثيرا..

—هـِـيْ …! يا قلبي على النور في عيونك، هذا البريق في عينيك يذكرني بشيء ما، قل لي من أنت وماذا تفعل في الأرجاء؟

—هل تحسب أنّها منطقتك المحروسة..؟

—إجلس، إجلس إليّ..

منذ أن دخلت هذه المدينة “بئرقاصدعلي” لم أكن مرتاحا، الناس هنا سُباتيون والمشعوذون كثر، أسوأ مكان يمكنك أن تكون فيه حيث أنا الآن في هذه المقبرة، إعتدت أن أقرأ مناشير الفايسبوك تشير إلى وجود طلاسم وأقفال سحرية هنا، أشجار الصنوبر على الأطراف تشعرني أنّني محاصر، خلفها مقبرة أخرى منذ أكثر من قرن، وعلى الجهة المقابلة منحدر فيه عُثر على آثار قديمة قد تعود إلى الرومان، أُعيدَ ردمها سريعا ولا أحد يعرف حقيقيتها حتّى الآن !المكان مجهول والمشهد مرعب..

إرتفع نباح الكلاب والشمس تكاد تغرب.. بدأت أفكر في مخرج حتى تدفق “لِكِيْ” كجنّيّ في الفراغ، حاولت تهدئة روعي لأتعامل مع الموقف بعقلانية فربما يكون لقاؤنا محض صدفة، حتّى سألني من أكون، واو.. لم يبق لي أيّ عقل! لِكِيْ لم يتعرف عليّ وهذا يرفع احتمالية أنّ الذي أمامي ليس هو! فكّرت في أنّه قد يكون جنّيّا فتسمّرت قدماي وشعرت ببعض البلل في سروالي.. لم يكن لديّ أيّ خيار إلّا أن أحاول أن أبدو هادئا متماسكا، وأخرج بأقل الأضرار..

—قل الحقيقة، أنت لِكِيْ..؟ هل استأجرت جنيا لتظهر فجأة هكذا!

—كيف عرفت أنّني لِكِيْ؟ ومن أنت؟ إهدأ قليلا وحدّق في عينيّ..

فكرت لولهة أنّ مكروها ما قد يحصل لي إن أطلت الإمعان في عينيه، قد ينوّمني مغناطيسيا أو قد يسحرني! حاولت إخفاء اضطرابي فرسمت ابتسامة مفتعلة وقلت: هيه.. وماذا بعد؟ هل يجب أن أفعل ذلك؟

—إسمعني يا رجل.. أنت أخبرتني أنك تسمع صوتي الخفي، مثلما حصل معي أيضا بالنسبة إليك، هذه الأصوات لا يجب أن نجزم حيال كينونتها قبل إمعان طويل.

لم نطل التحديق كثيرا في عيني بعضنا حتى انهالت دموعنا في اللحظة ذاتها، كان من المستحيل أن أكَذٍّب أنّ الذي أمامي الآن ليس هو لِكِيْ، تذكرت آخر مرة زرته فيها.. يومها ودّعني بنظرة مشابهة، لم أفهمها جيّدا، لم أفهم أنّه كان يقصد بها توديعي حتّى اختفى، كانت الأقسى، الأبقى، الأبلغ، يستحيل محوها من الذاكرة، الآن حُرقته شديدة جدّا أكثر من أيّ وقت مضى، أجهش يبكي.. واحتضنني كما لم يفعل من قبل، ثمّ قدّم لي بعض الزهور وقال:

—اسمعني.. خذ هذه وأبقها عندك، لا تتركها تذبل أبدا، وافهمني جيّدا، إيّاك أن تكون ماموثا.. أبدا أبدا.. تأكد من كلّ شيء قبل أن تفترِض..

اختفى لِكِيْ فجأة وتركني أصيح باسمه إلى أن أيقظتني أمّي، إحتضنتني ثم قالت: أبوك لن يعود!

 

المؤلف، عبد الجبار دبوشة:

المدير التنفيذي لمجلة فكرة كاتب وناشط على مواقع التواصل الإجتماعي، أكافح كي لا أفقد دافعا يربطني بالحياة.