ساحة للذاكرة

نال المركز الثاني في المسابقة الأدبية “ألف ليلة وصحوة”

bafc5496-c07e-4683-a815-0d6c139aa583

لم أكن أعلم أن الباص سيمر من ساحة العباسيين. كنت قد حاولت طوال السنتين الماضيتين أن أتجنب المرور من هنا، ولكن السائق العجوز كان قد قرر المرور من الساحة غير عابئ بقلق الركّاب من المرور في هذه المنطقة الملاصقة لخطوط الجبهة.
اقترب الباص من مدخل الساحة من جهة حي الزبلطاني، ومرّ بجانب إطارات مطاطية كبيرة مرمية على جانب الطريق. لم أستطع في تلك اللحظة، وعلى الرغم من توتّري، أن أكبح سيل الذكريات الذي تدفّق في رأسي. انعطفنا يميناً أمام الملعب الكبير المسمّى باسم الساحة “ملعب العباسيين الدولي”. أمام هذا الملعب قضيت ساعات كاملة في السنين القريبة الماضية وأنا أنتظر أية وسيلة مواصلات تقلني إلى بيتي في بداية غوطة دمشق الشرقية.
يومها لم نكن نسميها الغوطة الشرقية. كنّا نسميها باسم المناطق. جوبر، زملكا، عربين.. أو أي منطقة أخرى. المهم أنني كنت أنتظر هنا، في حرقة الشمس، أو في الساعات الأخيرة من الليل، وأنا خائف من التأخر على المنزل، ومن الخناقة التي تنتظرني. فيما بعد، وقبيل نزوحنا من المنزل، جاء اختراع الهاتف النقّال وحلّ كل هذه المشاكل.
تحسّست هاتفي النقّال ونحن ننعطف مقتربين من مركز الساحة. كانت الحديقة ماتزال على وضعها القديم. أو بالأحرى وضعها الأخير. حين قررت المحافظة إنشاء نفق كبير يمر من تحت الساحة، فهدمت الحديقة القديمة، وشيّدت عوضاً عنها غابة من الأعمدة المعدنية البشعة، لم أستطع حتّى اليوم فهم دلالتها.
أثناء انعطافنا سمعنا رشقة رصاص قريبة، فشعرت ببشرة ناعمة تلامس يدي. كانت ظهر كفي قد لامس ساعد فتاة عشرينية لم أكن منتبهاً حين صعدت ووقفت بجواري، ممسكة بأحد القبضات المتدلية من سقف الباص، القبضات التي كانت تذكرني دائماً بالمشانق. لم أتذكر الآن قبضات المشانق، كما لم أنتبه لوجه الفتاة. كان دفق الذكريات يطغى على كل شيء آخر، حتى على الشعور بالخوف الذي كان من المفترض أن أشعر به بعد سماعي لرشقة الرصاص.
أكمل السائق انعطافه حول مركز الساحة، واقترب من مدخل حي القصور. توقف عند بداية شارع كنيسة السيدة كي ينزل أحد الركّاب ثم عاود السير. كانت المصاطب الحجرية المجاورة للكنيسة فارغة تماماً. لم يكن هناك أي أحد جالساً عليها، كما اعتدنا أن نفعل في أيام المدرسة. توقّف الباص بشكل مفاجئ، فانزلقت يدي عن القبضة التي أمسكها، وأحسست بشعر الفتاة العشرينية يدخل في فمي. كان التوقّف مفاجئاً لدرجة اصطدم فيها كلّ الركّاب الواقفين ببعضهم البعض. كان طعم الشعر مراً، ومثيراً للغثيان.
ساد الهرج والمرج بين الركاب. تبيّن أن السائق بسبب مرور قطّة مسرعة من أمام الباص. بدأ الركّاب باستعادة أنفاسهم، في حين بدأ البعض بإطلاق النكات الساخرة حول الموقف الساخر الذي مررنا به “أحلى شيء ننفد من الرصاص مشان تقتلنا قطة عم تقطع الشارع” قال رجل عجوز تلك الجملة، وبدأ الجميع بالضحك.
شعرت فجأة برغبة قوية للنزول من الباص. ضغطت الزر على جانب الباب الخلفي، فلم يصدر أي صوت. كان معطلاً! ولكن بدا أن العجوز الساخر ذاته كان قد انتبه لي، فصاح منادياً “فتاح ورا” ظنّ باقي الركّاب أنه كان يطلق نكتة أخرى، فضحك الجميع، ولكن لحسن حظي كان السائق قد فتح الباب.
نزلت من الباص فلامست قدماي أرض الشارع. كنت أريد أن أستعيد دفق الذكريات قبل أن يهرب مني. كانت العودة باتجاه الساحة خطيرة، ولكنن أردت الاستسلام للشعور الذي تملكني، فاستدرت عائداً باتجاه الساحة.

 
المؤلف، وسيم الشرقي:
كاتب ومسرحي من سوريا.

اختر مغامرتك

كانت صدمة كبيرة جعلته ينطوي على نفسه تحت قوقعة تطل على عالم منقسم إلى نصفين حتى

أ) فجرت الأيام غرائزه، وذكرته أن الحياة موجودة في الخارج.

ب) شعر بأنّ قطار الحياة سيمضي ولن تستطيع أي قوة إيقافه.