قسنطينــة ، 1958
دخل الضابط الفرنسي الشاب الحانــة بحي القصبة متعبا بعد يوم عمل شاق، ثم طلب شرابا، وغرق في ذكرياته …
لم يأت إلى قسنطينــة في الوقت المناسب،جاء في زمن الحرب، وكضابط شاب حريص على تسلق سلم الرتب العسكرية فقد نفذ الأوامر دون أن يسمح للأسئلة بإزعاجه…حتى عندما طلب منه تعذيــب الثوار، وقتلهــم !!
منذ وطأت قدماه المدينة الأسطورية أحس برهبة شديدة…
كانت جالسة بشموخ “عشتار” فوق صخرة عتيقــة تحدها هاوية مرعبة قعرها واد الرمال، وفوق النهر النحيل ألقت جسورها السبعة المراسي إلى الضفة الأخرى التي تربطها بالعالم، وأكثرها تطير على ارتفاع شاهق تحس بسببه بالدوران والخوف.
ورغم هذا فقد أحبها لأنها تأسر القلب بجمالها الأخاذ .. بجسورها الجميلة وأحيائها القديمة التي تتنفس التاريخ، ومناظرها الطبيعية الخلابــة.
قطع حبل تفكيره فجأة صوت أنثوي عذب، فالتفت ليجد بجانبه فتاة جميلة ترتدي فستانا رائعا.
— هل تنتظر أحدا؟
تفاجأ الشاب الباريسي بجرأة تلك الفتــاة،فحتى في باريس النساء لم يصلن إلى هذه الجرأة !
ابتسم ، وقـال :
—لا، أنا وحيد..يشرفني أن أستأنس بمحادثتك.
— حسنا، أنا اسمي “إيزابيلا”.. فرنسية من أصول إسبانية …
— هذا واضح من لون بشرتك، وشعرك الأسود الجميل …الجمال اللاتينـي !
… في قسنطينــة نحن محرومون من رؤية الجمال لأن نساء المدينة العربيات يختفين تحت ملاءة سوداء تغطي كل أجسادهن، وحتى وجوههن مغطاة فلا تظهر منها سوى عيونهن الخائفــة..
كان يريد ممازحتها لكنها لم تبتسم ، بل قالت بلهجة جادة :
— هل تعرف سر الملاءة السوداء ؟
فنظر إليها مندهشا ، ثــم قال: لا!هي لباس هدفــه ستر النساء؟!
— قبل أكثر من قرنين ولد في تركيا شاب يدعى “صالح”، تورط في قتل أحد أقاربه خطئا، ولينجو من العقاب هرب إلى قسنطينــة، لكــن القدر كان يخبئ له مستقبلا رائعا، فصار بعد فترة حاكم المدينة، وفي عهده عرفت ازدهارا كبيرا…وذلك أحبه كل السكــان، ولأن حاكم الجزائــر آنذاك خشي على كرسيه فقد عزله وأعدمه، وحزنا عليه ارتدت نساء قسنطينــة الملاءة السوداء منذ مقتله عام 1792 إلى اليــوم.
— قصة غريبة جدا…كل نساء المدينة يرتدين السواد قرنا ونصف بسبب رجل واحد؟!
… إذن هذا هو سر الملاءة السوداء!
ولم ترد عليه ، بل نظرت إلى ساعة الحائط، وكانت تشير إلى التاسعة إلا بضعة دقائق، ثم قالت :
— أنا أعرفك قبل اليوم، لكنك لم تتذكرني فقط !
— محال أن أرى هذا الجمال وأنساه !
— أتذكر يوم قبضت على الثائر الجزائري الشهير أحمد الساري؟
— نعم، ولقد مات تحت التعذيب ، لكن ما العلاقــة؟
— لقد جاءت زوجته تترجاك…فقط لتنظر إليه النظرة الأخيرة، فرميتها خارج مكتبك!
تغير وجهه، ونظر إلى عيون الفتاة، فتذكر أنه صادف تلك العيون الفاتنة من قبل.
— أنا أرملة أحمد، ولم تعرفني لأنني كنت أرتدي ملاءة سوداء وغطاءا على وجهي
، فلا تظهر سوى عيوني.
وقف مرعوبا لا يعرف ماذا يفعل، لكن الفتاة ظلت جالسة بهدوء، قبل أن تنظر مرة أخرى إلى ساعة الحائط، وتضيف:
هذا هو سر قسنطينـة ، وسر الملاءة السوداء!
ثم نظرت إلى حقيبة جلدية كانت تضعها قرب قدميها…
وبعد لحظات اهتزت المدينة على دوي قنبلة، ومات كل من كان في الحانة، وأغلبهم جنود وضباط فرنسيون ثملون ..
… كانت القنبلة الموقوتة داخل الحقيبـة .
المؤلف، نور العروبة:
أديب جزائري من مواليد و سكان مدينة قسنطينة بالجزائر
مهندس في التهيئة العمرانية
شاعر و روائي و كاتب صحفي
له ديوان شعر مطبوع و قصائد شعرية و مقالات منشورة
كما تحصل على عدة جوائز ادبية