زهرة التفاح

Jezmatiyeh souq, Damascus, Syria

السرّ الذي لم يكتشفه سوى الأطباء، هو أني مذ كنت يافعاً لم أكن أشعر بما يشعر به الرجال من ميل نحو النساء، فأصبحت أقتني كتب علم النفس، وأنكبّ على قراءتها برويّة وصبر، ثم بدأت أدمنُ مطالعة كتب الطب التي تتعلق بالفحولة، وأخيرًا ترددت على العيادات المختصة لكن بعد فوات الأوان.

نشأتُ في(الجزماتية)، من أسواق حي الميدان أحد أحياء دمشق القديمة، ومن نافذتي أستطيع رؤية الشارع وهو يعج بمطاعم المأكولات الشامية الشهيرة (كمحل أبي الخير) وبمحلات الحلويات الدمشقية الفاخرة (كجاره أبي عرب).

مضى من عمري نصف قرن، واليوم كالعادة لا أفكر في الاحتفال بعيد مولدي، لكنّي لا يمكن أن أنسى المرّة اليتيمة التي احتفلت فيها بهذه المناسبة:

منذ خمسة عشر عاماً جلبَتْ معها علبة حلوى(من محل أبي عرب)وغصنًا صغيرًا يحمل زهرة تفاح كان أبو الخير يزين به واجهة المحل.

إنها حلا أخت صديقي حازم؛ كانت آنذاك طالبة في كلية الطب، ضليعة باللغة الفرنسية لكن أخاها حازمًا طلب مني أن أدرّسها اللغة الانكليزية لتتمكن من الاطلاع على المراجع العلمية، وهكذا أصبح منزلي مركزاً لتعليم اللغات فيه مدرّس واحد وطالبة وحيدة !..كنا في أوقات الراحة نزرع البيت حركة ونحن نثرثر ونتصفح المجلات ونحضّر القهوة ...اقرأ المزيد

تندةٌ خضراء

Green Canopy, Ain Shams University, Faculty of Medicine, Cairo, Egypt

يفتح كتابا قديما وجده بالصدفة في درج مكتب مهمل ، يقلب في صفحاته الأولى متذكرا أياما خواليا كان بها سعيدا ، تسقط وردة ذابلة -نسى وجودها- مثلما يحدث في الأفلام السينمائية القديمة من بين دفتيه ، فتختمره مشاعر جميلة ذهبت منذ سنوات بلا رجعة.

يكمل بحثه في الدرج الكنز ، فيجد إعلانا لرحلة ، ورقة علمية ملخصة ، شعارات لأسرة طلابية ، و قوائم لانتخابات جامعية.

يصب القهوة التي فشل دائما في صنعها ببراعة في فنجان صغير ، يشتم رائحتها فلا تعطيه الإحساس المرجو ، يصيبه الحنين لأشياء كثيرة انقطعت عنه منذ زمن.

يخطو بخطوات مترددة ، والجا المكان الذي لم يطأه منذ سنين طوال ، تستقبله البوابة بابتسامة واسعة ، متذكرة أيامه عبرها.

تقابله التندة الخضراء ، بأعمدتها الباسقة ، و لونها المريح ، و مظلتها التي يحتمي الجميع تحتها صيفا أو شتاءً.
يحاول أن يجلس على المقعد الأول و لكن المقعد يرفض ! ، يتقوقع على نفسه مجيبا إياه بأن صديقه ليس معه ، و هو تعود على أن يجلسا الاثنان فوقه معا ، دمعة عابرة تترقرق على راحل لم ...اقرأ المزيد

حفيد الأنوناكي

Great Ziggurat of Ur, Nassriya, Irak

ذات زمان، رجل غريب جاء إلى المدينة بسيارته الفارهة، وبدلته الإفرنجية, وحذائهِ اللمّاع, يقف على مشارف المدينة المقدسة, يأتيه الناس بتماثيل حجرية, وألواح قديمة, فيغدقُ عليهم العطاء بأوراقه النقدية من فئة الدولار الأمريكي.

سرعان ما شاع خبر الرجل الغريب, فتوافد القرويون بمعاولهم ينبشون القبور الجاثمة منذ أمد بعيد, فيسلبون منها كل ما تقع عليه أيديهم, من أوانٍ صُنعت من فخار, أو تماثيل من حجر, وأقراط وسلاسل يجدونها على عظام الموتى البالية, ويهرعون بها إليه طمعا بالمزيد من الدولارات.

كغيري من الناس, أصابني الجشع, وحلمت بتلك الأموال التي هطلت على المدينة بعد أن كثُر أصحاب السيارات الفارهة.

حملتُ معولي، وتوجهت نحو تلك الحجارة القابعة على أطراف مدينتي الناصرية, حيث مدينة أور – كما أطلق عليها القدماء في مملكة سومر – , على بعد كيلومترات قليلة بدت معالم الزقّورة , شامخة بلونها الأحمر القاني, وأحجارها المصنوعة من اللبن الطيني, والطوب المحروق, وأعمدتها القرميدية, بهندسة معمارية تنمّ عن روائع عصر فجر السلالات.

قادتني أقدامي نحو سلّم حجري يتوسّطها, خطوة أثر أخرى, مائة درجة حملتني إلى قمتها, وقفتُ شاخصا بصري نحو مدينة مترامية الأطراف, حيث المعالم التي تشير إلى الزّمن الأوّل (أدب, أور, أوروك, لارسا).

فتحتُ ذراعيّ، وأغمضتُ عينيّ، ورفعتُ رأسي، أستنشق عبق ...اقرأ المزيد

حالة حب

Girl's Profile in Aden, Yemen

نظرت سعاد من شباك غرفتها بشرود و كثير من التفكير , لم تتمكن أصوات الأغاني العالية الصادرة من جهاز التسجيل من إخراجها من من تفكيرها العميق , أمسكت بخصلات شعرها السوداء و تلمست وجهها بشئ من الهدوء و قد أكتست بشرتها القمحية القليل من الحمرة على وجنتيها حينما زارتها كل تلك الذكريات القديمة .

نظرت بعيناها العسليتان لغرفتها التي ملئت بكل تلك الهدايا المتناثرة, فأختها الصغرى مريم ستتزوج اليوم و لم تتحمل غرفتها كل تلك الهدايا التي جائتها من عريسها المتغرب بالخليج , هبت تلك الرياح الساخنة التي أعتادت مدينة عدن اليمنية على إستقبالها في مثل هذا الشهر من كل عام , و اخذت تتسائل سعاد في نفسها هل ستفرح اليوم أم أن الحزن كُتب عليها طوال حياتها.

تفاجأت سعاد و هي تتذكر رائحة الحنة حينما رأت علبة الصباغ السوداء على الطاولة الخشبية , تلك الرائحة التي جعلتها تتذكر حبيبها علي التي لم تتمكن من نسيانه مطلقاً , عاشت سعاد مع والدها الموظف في مصلحة المياه و والدتها التي قررت الخروج من المعاش بعد 25 عام كمدرسة في إحدى المدارس الثانوية في كريتر , كانت تشعر بالغبطة و السعادة بانها تعيش مع اسرتها الصغيرة المنفتحة التي ...اقرأ المزيد

نداء الفجر

The sea at Alexandria, Egypt

عيناها وقحتان تلك المدينة الغادرة .. الأسكندرية
ترميانك بنظراتها اللاهية وهى تتابع خطواتك المتوثبة فى منحنياتها المتخمة بالسرور.
هى هكذا تحملنا على صدرها فلا تحنو و لاترق ، ولكن تطوح بنا كيف تشاء ، واثقة أنها مهما فعلت بنا سنرضى، على أساس أن مجرد وجودنا بين أحضانها نعيم .
فى صيف بعيد أخذنا الأجازة الصيفية ، أسبوعاً تغلق الشركة فيه أبوابها ، تجهز الباصات للسفر وتحجز أماكن المبيت للمشتركين فى الرحلة من الموظفين وأسرهم، اختار معظمنا الأسكندرية، غادرنا القاهرة بأشواقنا ولهفة أبنائنا الصغار للقائها، تلقتنا ببسمتها الغامضة، لم ندرك ماوراء تلك البسمة الا بعد حين ، تراقص النسيم كعادته بأرواحنا، وأفسحت الرمال صدرها لأجسادنا شبه العارية ونحن نلعب كباراً وصغاراً الكرة الطائرة أو كرة القدم، بينما البحر يرسم على محياه الممتد الى حد الأفق هدوءً يليق بعملاق مثله.
كانت النساء تختار ما قبل الشروق للتمتع بلمسات الماء الحانية الى أن ينسل الضوء عبر السماء فاتحاً عيون الكون على الصباح فيخرجن ويبقى الصغار فى أحضان الموج ، يجهزن السندوتشات مع اعتلاء الشمس عرش السماء من ناحية الشرق، يهرول الأطفال الجوعى فرحين ترتعش ...اقرأ المزيد

أسلاك وأشلاء

Sheep in Gaza, Palestine

انقطع التيار فأسدل الليل ستائره، الصمتُ يغرس نابه منقضاً على ضجيجٍ أبكم، تقوقع الجميعُ ساكناً لا تسمعُ إلا همساً، بكاءُ صغار يقطعُ أنينَ السكون، وصوتُ ارتطام رصاصة يأتيك من طرفٍ خفي، واجتمع محاقُ كانون وصقيعه، تحولتْ القرية إلى أشباح وآذان صاغية، هدأ صوت الطفل رويداً على ثدي أم التقطه جزعاً لا جوعاً، وشمعة تطعمنا نورها مانحاً أماناً نلتمسه.

أهاج الظلامُ نوماً غير مأمول، وحرك في آخرين يقظة أفئدة ناسكة، أو شهواتٍ مسعورة للقتل، التمستُ مذياعي القديم تريد أركانه أن تنقض، يقيم أوده أستيك فقد صفته فلا تخرج أحشاؤه، رحتُ أستجديه علَّه يسامرني ظلام ليّلتي، أدرته برفق، أخرسه الليل وأصمه البرد، هززته بلينٍ كي ينفضَ ما علاه من قسوة الهجر، أبى نطقاً كمن يعاقبُ حين مقدرة، تحسستُ بطاريته بغيظٍ، فصرختْ وتقيأتْ بصدأ وصديد في جوفها، انقطعت أمعاءُ الرجاء في صديق أصارع معه أبابيل ليلة عاصفة، تأففت وحدتي وتضاعف خوفي من أزيز الرصاص، بحثتُ مرغماً عن سِنةٍ أو نومٍ، تهتُ في أغطية تشبه كفن ميتٍ في إحكامها، اتخذتُ الرجاء وسادة علَّ الجفنَ يثاقل، أو ينقضُّ عليه حلمٌ ضلَّ صاحبه، لكن صوت الريح يعلو ويعبث بحباتِ رمالٍ يتيمةٍ تطرق نافذتي، ...اقرأ المزيد

اكتب لي

The Treasury, Petra, Jordan

قالت اكتب … اكتب عن مدينتك، اكتب لي عن الناس، عن النساء، نساء بلدك جميلات، فهل من سبيل للمنافسة؟ قالت.
حاولت أن أرد عليها، فوضعت يدها على فمي، وأشاحت بنظرها إلى الخزنة الكبيرة، التي كنّا نجلس على مصطبة خشبية أمامها في البتراء، تأملتها بصمت، وقالت: اكتب عن المكان، عن لهب الشموع وتناغمه مع صوت ناي البدوي المنلفت من اقصى الخزنة. اكتب عن تلك النبتة، التي تنط من بين الصخور في أعلى نقطة في واجهة الخزنة، لأنها الشاهدة الوحيدة على أول امتعاض لي، وأنت تسرق قبلةً مني. 
 اكتب على راحة يدي، بقلم كحلتي الأسود. قالت هذا، وهي تمد كفها لي، وراحت بيدها الأخرى تبحث في حقيبتها الجلدية عن الكحل. كانت تخجل وهي تخبرني عن جهاز سمعها، الذي تحاول أن تخفيه تحت خصلات شعرها المنسدلة على طرفي أذنيها الرقيقتين. كانت تذوب في الخجل.
وهي تردد: اكتب لي… 
ورحت أكتبُ على كفها، وأجيبُ على أسئلتها. بينما كانت تقرأ رسم الكلمات على شفتي عند لفظها، حتى ظهر القمر بوجهه الكبير، من خلف جبل، كان يلقي بظلاله على الفسحة الأمامية للخزنة، حيث تنتشر الشموع. وبدا الأمر غريبا، عندما شاهدت ...اقرأ المزيد

جبَّانة الذكريات

El Shatby Historic Cemeteries, Alexandria, Egypt

جولة. المشي يريح. ومهبط الوحي الذي نسجتُ فيه أطيب أشعاري يرحِّب بسَحْبِ حواجز أتراح الحياة عن روحي. جولة. المشي رفيقٌ وطبيب. رمال الموقع الأثري تحمل في تلبُّدِها آثارًا من مطرٍ قريب. الدائرة التي قوامها أعمدة بيضاء متباينة الأطوال على كلٍّ منها أرقام كُتبت بطلاء أسود مشوِّه (24 – 21 – 125 -…) تُحدِق بتمثالٍ (يحمل رقم 129!) يرتكز على قاعدةٍ حجريةٍ مربَّعة. تمثال لكِيانين بشريين متعانقين يرتديان الهيماتيون، وعناقهما حزين، يبثُّ الأسى والقنوط، وتملأ المساحة ما بين التمثال والأعمدة نباتات خرزية الأوراق متشابكة، لا ترتفع عن الأرض إلَّا سنتيمترات قليلة، لونها أخضر غامق. جولة. المشي دواءٌ للمهموم. الجبَّانة تُطلُّ عليَّ بعيونها التسع، وذراعيها اللتين في باطن كلٍّ منهما تسعة أعينٍ أُخَر. استدرتُ. مشيتُ. عينٌ منحوتة تُشبه بئرًا أو إناءً للزهور. نحت مستدير يُشبه قمَّة عمود. بل هو قمَّة عمود، ولكن الزمن جار عليه! أبو الهول مفصول الرأس. أعشق كل شبرٍ من هذه المقابر العبقرية.
توغلتُ في المكان المفعم بأصالة القرون حتى انتهيتُ إلى أجمل أثرين بمقابر الشاطبي الأثرية. منضدة رخامية ثُمانيَّة الأضلاع، في لون الرباب المحلِّق في الأفق الأزرق الذي يمسُّ البحر ...اقرأ المزيد

أصداء الحنين

Meniet El Morshed, Egypt

كلما وصلت في نزهتي اليومية إلى عزبة الملح ، القريبة من قريتي منية المرشد، تتوالى دقات قلبي كأنها إيقاع لحن جنائزي .
في مدخلها لازالت أطلال مملكة الحاج محمد عطية ، تحكى قصتها الجميلة ، التي استغرقت ما يربو عن نصف قرن .
لم يتبق من الدكان والظلة سوى أخشاب وأحجار ، توشك أن تختفي في جوف العدم .
هنا كانت محطة للتسوق والراحة من وهج الشمس وقر الشتاء ، يجلس بين روادها الحاج محمد مرتديا ثوبه الأبيض الذي لا يصيبه أدنى أذى ، رغم تعامله مع البقالة والعطارة والخضروات ، ويعتمر طاقية من نفس القماش.
يجذب من قلبه الطيب ابتسامة واسعة مع مولد الصباح ، يظل محتفظا بها ليوزعها على الجميع .
يأتي الرجال من العزب المتناثرة ، فتدور أحاديث حميمة عن السياسة والزراعة والطرائف والمشكلات والأشواق والمعجزات والأوجاع والفشل والموت .
خارج المحل كانت تقف- بصبر- ثلاجة بدائية من الخشب مكتوب عليها : اشرب كوكاكولا ، ممتلئة بالزجاجات المغطاة بالثلج .
عندما يندفع الصهد إلى أعلى حلوقهم ، يتناولون المفتاح الحديدي المعلق بخيط في الثلاجة .
يرتفع صوت فتح الزجاجة كالطلقة ، ...اقرأ المزيد

ذهاب إياب

Umm al-Qaywayn, UAE

أول يوم تشرق فيه الشمس علي في الإمارات.. لم يضيع أخي كمال وقتا، أول ما أخذني إلى الشارقة وهناك اكتشفت أن له علاقات واسعة وحميمة في كل الإمارات تقريبا، وذلك لعمله المهم في جريدة الخليج..
الشارقة فتاة خجولة حيية تتسم بالوقار والجمال ترتدي ثوب العلم والثقافة.. بينما دبي تضج بالحرية والحياة لموقعها التجاري المهم، الطريق إلى أم القيوين وعر محفوف بالمخاطر، وأول هذه المخاطر “الهجن” التي ترعى في الخلاء بلا صاحب ولا راع.
بدأت سحابة من اليأس تجتاحني بددها أخي كمال:
أ تيأس من أول يوم..
عندما وصلنا إلى البيت أخبرتنا سهام زوجته أنه تم تعييني في بنك أم القيوين الوطني..
فجأة تحول كل شيء إلى الاتجاه المعاكس.. اختفاء مستندات مهمة من درج مكتبي، إلغاء المدير تعاقدي، وترحيلي إلى مصر..
انتبهت على صوت بجانبي في طائرة العودة، كأنه يحدثني:
مقدر ومكتوب..
التفت لأجد رجلا عجوزا له لحية بيضاء خفيفة.. سألته بصوت خافت:
أتحدثني..
هز رأسه دون أن ...اقرأ المزيد