صباح خريفي جميل، يذكّرك و أنت خارج من منزلك بمناظر لا تراها العين إلا و أنت سعيد كل السّعادة،… صباح يغشاه ضباب خفيف أضفى على المكان هدوء و وقارا لا تلمحه إلا في جلابيب الزّهاد والنّساك…صباح خريفي كله ترقّب لما سيأتي بعد الصباح، علّها الشمس الدافئة التي تبثّ أشعتها لتصل إلى أبعد قطب في الأرض كل الأرض، فتنير الطريق و تفتح بكل تجبّر و قوة أستار الضباب و تقطّعها إلى أجزاء متناثرة ستحملها الريح بعد ضعفها… و في ذات الصباح الخريفي، كان “خالد” قد استعد للتجوّل في أزقة الحي الشعبي القديم، علّه يلتقط شيئا جديدا من كل ذلك الكم الهائل من القديم الذي يلفّ المنازل كما يلف الأشياء المعروضة للبيع أو المعروضة لتزيين الواجهات، أو من كل ذلك القديم الذي صار يؤرق يومياته العابسة، فلا يعدو أن يميّزه الإسفاف و الحزن الذي ألمّ به مذ رحل عنه أعز مخلوق في الوجود، بل أعز مخلوق كان لوجوده معنى في وجود خالد، تاركا كل شيء كما كان منذ أن فضّل الرحيل إلى الأبد، و كأن يوم الرّحيل هو نفسه اليوم الخريفي الذي يعيشه خالد… لقد انتظر طويلا حتى يعلن أمام نفسه أنه لا يستطيع المواصلة في عيش حزين أقعده في المنزل كما أقعده المرض ذات يوم من أيام عمره، و رغم ذلك، فالحزن لم يفارق بسمته الكئيبة التي يلقيها على المارة بعد إلقاء التحية وهو يعبر الشارع العتيق أو كما أسماه “شارع العالم”، ذلك أن الشارع العتيق قد حمل – رغم صغره – هموم الدنيا واحتواها بين حيطانه و زواياه زائدة على همّه، فالشّارع بما فيه مزيج من مختلف المآسي التي يعيشها العالم، و جمعت في طريق عابر أوى المتسولين والكادحين و العاطلين و اللصوص و المرتزقة و الخونة و الكرماء والعملاء و الأجانب و سكان الشارع الأصلي، و كل ما لا تستطيع احتماله ذات يمينك. هذا هو الشارع العتيق، شارع خالد المفضل في كل الفصول و في الخريف على وجه التحديد، يلجأ إليه ليخفّف ألمه – بل آلامه – انطلاقا من المثل الشعبي: “اللي شاف همّ الناس ينسى همّو”…و يعبث في أرضية الشارع بقدميه المتورمتين من الألم تماما كقدمي “أوديب” المتورمة من ألم الحوادث التي ألمّت به منذ أن رأى النور فسميّ على اسمها، عبث يشعرك أن خالدا لا يزال طفلا أو يحنّ إلى أيام الطفولة، حين ألف التجوّل مع رفيقه الغائب عنه، مطلقين العنان لمغامراتهما الجنونية الصغيرة مقارنة بحجم الشارع الكبير، كسرقة حبات البرتقال التي تخطف النفس برائحتها قبل منظرها الأخّاذ، أو تلك التي ألفا فيها الاستماع إلى حلقات المدّاحين الذين يبيعون لخلق الله كلمات من السحر و القول المنظوم…
و يظل خالد عابرا لذاكرته المثقلة بكل المشاغل و المشاكل و الفوضى التي تحيله على تقاعد مبكر في عمره، و عابرا لأزقة “شارع العالم” كما أسماه، يلتمس الراحة من أكفّه كما يلتمس المتسولون صدقاتهم ممن لا يملكونها، يحاول أن يعبّر عن ذاته التي تريد أن تكون بعد غياب كما كانت في وقت مضى، يتمنى، مع علمه الأكيد أن أمنياته لن تكون إلا خيوط ضباب ستتفكك مع أول سهم من سهام الشمس، ولعله يتمنى أن يجد بعد الزمن الجليد زمنا آخر ينساب من رحم شارع قديم آخر كله حياة وأمل ذات صباح خريفي آخر.
بقلم المؤلف أحمد صانع