في ذلك الصباح، كان المشهد مفجعاً، كئيباً، سحب الدخان، والغبار حجبت ضوء الشمس، الهواء مشبع برائحة الموت، كل شيء يتأوّه، يصرخ، المدينة تمطر أحزانها، مع إشراقة شمس صباح ذاك اليوم.
راح الناس يتوافدون إلى سوق المدينة فغداً هو أول أيّام العيد، وأصبح السوق كخلية نحل، ومن أمام متجري المطلّ على السوق، بدأت أراقب حركة النّاس، وأنظر إلى شجرة الزيتون العتيقة التي تتوسط السّاحة، وأرى فيها مستقبل أولادي، إنها شجرة مثمرة، شامخة شموخ المعتز بوطنه، متمسّكة بالأرض، وارفٌ ظلها، يتفيأ به النّاس.
غصّ السّوق بالنّاس، نساء، شيوخ، أطفال فرحينَ باختيار ثياب العيد، الكل يستعدّ ليوم الغدّ، لأول مرة أستمتع بضجيج المدينة، وضوضائها.
من بعيد تراءت لي الطفلة بائعة الياسمين، يستوقفها أحدهم، ليبتاع منها طوق ياسمين، تطير بجناحيها فرحاً كالفراشة، تحط أمام واجهة أحد المحال، لتختار لنفسها ثوباً، تتمايل أمامه، تلصق وجهها بالزجاج، تتراجع، تلف حول نفسها، وتحلق بجناحين من حلم، وفرح.
وولدي يقف بجانبي
ـ أبي، هل ستأخذنا إلى مدينة الألعاب؟
ـ نعم، احتضنني، قبّلني، لفحتني أنفاسه، قشعريرة تخترق جسدي.
من بعيد صوت هدير طائرات.
انفكّت ذراعيه عن عنقي، دخل مسرعاً، جلس تحت الطاولة، أغرق جسده بين ركبتيه، أختصره بأصغر حجم ممكن كي لا تطاله الشظايا، محتضناً ثياب العيد.
كم تمنيت أن تبتعد تلك الأجنحة السوداء عن سماء المدينة قبل أن يموت عنده الأمل.
لعنة الله عليهم، كنت أعرف أن لا عهد لهم، ولا ميثاق…. هدنة كاذبة.
أصاب الناس الذعر، الخوف ملأ الوجوه، صراخ الأطفال عبر الفضاء، وما هي إلا ثوانٍ، وقبل أن يغادر أحد، أطلقت الطائرات صواريخها الفراغيّة على السوق، تلاه صوت انفجار هزّ الأرض من تحتنا، أحسست بأول شظية اخترقت جسدي، حجارة وأشياء كثيرة سقطت فوقي، انتابني شعور بأنني فارقت الحياةّ، صور مبهمة تعبر شريط ذاكرتي، مخلوقات نورانية بأثواب بيضاء، ملطّخة بالحمرة تعرج إلى السّماء، جسدي الثقيل حال دون اللحاق بهم، اختفت القناديل من السّماء، تحوّلت إلى بقع بيضاء وزرقاء تعبر أمامي، ضجيج، وعويل من حولي، صرخات تدفعني للوقوف، استعدت وعيي، أدركت حينها أنني ما زلت على قيد الحياة، حاولت أن أقف، استجمعت قوة سنين عمري، ووقفت، رأسي ينزف، ساعدي، خاصرتي، كانت سحب الدخان تغطي السّماء، امتلأت الأرض بالجثث، الحريق يلتهم المتاجر، ويمتدّ للمباني المجاورة، طبقات الأبنية سوّيت بالأرض، بدأت أبحث عن ولدي من بين فتحات الأسقف المنهارة، ناديته، صرخت وصرخت، ما زلت أشعر بأنفاسه من بين تلك الفتحات، مددت يدي من بين الشروخ لعله يتمسك بي، تضرّعت إلى الله مرات ومرات بأن يعيده إليّ، يا رب، إنه عشبة قلبي ونور عينيّ، ناديت ملك الموت، وطلبت إليه أن يبقى بعيداً عن أبني، خذني بدلاً منه، ولا تغدر بي، انهارت الحجارة من تحت قدميّ، تشبثت بالقضبان، تتالت الصّرخات من خلفي أن أتراجع، لن أهتمّ لنداءاتهم، أطبقت أيادٍ كثيرة على ذراعيّ، وسحبوني من بين الركام، جراحي مازالت تنزف، وولدي مازال عالقاً تحت الأنقاض، وجثة فتاة الياسمين مضرجة بالدماء، وعيناها تحدقان مكان الثوب، ويدها قابضةً على ثمن طوق الياسمين، دارت الأرض بي دورات سريعة وعادت الطّائرات للتحليق في السّماء.
بقلم المؤلف محمد فاتح زيداني