رسالة من فتاة البحر

Juliyana Beach, Benghazi, Libya

تسللت خیوط اللیل الحالك رویدا؛ لتباغت الفضاء الذھبي المطل فوق البحر الساكن.. تداخلت بلطف مع النور الأصفر الباقي ھناك في الأفق، وأخفقت لمعانھ.. ملأت محیط المقھى الذي أجلسھ بھدوء تلى ضجیج النھار المعتاد في منطقة جلیانة بسبب زوار شاطئھا. رائحة شواء السمك منبعثة من مطاعم الجوار تزورنا عبر النوافذ الخشبیة القدیمة للمقھى؛ رغم غیاب نسمات الریح ذلك الیوم!.. موسیقا كونشرتو تصلني مباشرة عبر سماعات لصیقة بأذني لا أكاد استمع لتفاصیلھا بسبب انشغالي بقراءة كتاب عن تاریخ لیبیا القدیم… وقفت على فقرة متمعنا بتركیز حقیقي، وقرأت جیدا: “تروى الحكایة أن Gluliana جلیانة ھي اسم لفتاة إنجلیزیة شقراء ناعمة، لم یسبق أن عُرف لجمالھا نظیر، في السابعة عشر من عمرھا وھي الابنة البكر والمدللة للقنصل الإنجلیزي في مدینة بنغازي حوالي عام 1850.. وقد ماتت في ریعان شباباھا غرقا، اختطفھا البحر عندما كانت تسبح داخلھ.. لم یعم الحزن على أسرتھا فقط؛ بل على جمیع سكان المدینة آنذاك؛ لذلك تم اطلاق اسمھا على المنطقة التي تحد ذلك البحر”…

ما أن خرجتُ من المقھى كان اللیل قد أسدل ستار العتمة خاصتھ، فقررت أن أجوب المسافة التي تمتد على طول الشاطئ متجولا وحدي، راغبا في قضاء ساعات تجلي بیني وبین ھذا المكان الذي سلب أجمل نساء العالم.

القیتُ بجسدي بالقرب من میاه البحر لأجعل ظھري یرتاح على الرمال الصفراء التي لا تزال شمس الظھیرة تمنحھا دفء ممتد لساعات المساء المتأخرة.. شردتُ بصفاء وأنا اتفحص عدد النجوم القلیلة في السماء!!.. اغمضت عیني واستلمتُ لغفوة خفیفة.

مرّ على رجليّ وأنا لازلت مغمض العینین طرف قماش ومس جلدي بحذر.. أیقظني رغم نعومتھ الزائدة، وما أن بحثت عن مصدره، وجدت ُّ فتاة طویلة شاھقة بجمالھا الفرید، شقراء، ترتدي فستان أبیض شفاف ملائكي ــ كما صورتھ لنا الأساطیر ــ تقف بجوار موضع قدماي.. ابتسمت وتركتني متجھة للبحر، غاصت بجسدھا وبكامل ملابسھا في الماء، ثم أخرجت رأسھا وھي تضحك.. أومأت بإشارة راغبة في أن ألحق بھا، فعدلت جسمي وجعلت من أطرافي تساعد في نھوض جسدي بسرعة.. وقفتُ ولكنني لم أجرؤ علي دخول البحر، أدارت ھي رأسھا صوب العمق وأخذت تسبح باتجاهه البعید.. تغوص ثم تظھر وتنتفض المیاه من حولھا، وینتفض قلبي معھا؛ خوفا لفقدھا وھي تختفي بعیدا.

لحظات تمر وأنا أراقب سباحتھا، لكن موجة عالیة تعقبتّھا فجأة، ابتلعت جسدھا… وأنا متسمّر لا أعرف ماذا أفعل!!.. تخرج رأسھا لتقاوم تیار الماء القوي المحیط بھا.. تنادیني بأعلى صوتھا مستنجدة، فتصلني كلماتھا بصعوبة وھي تقول: ــ لا تتركني أغرق كما تركوني من قبل.. أنا جلیانة.. حبیبتك.. أنا بنغازي.. أنا كل الأرض التي تقف علیھا…

انتزعت ُّ ملابسي بصعوبة وبدأت أركض، لكن جھدي خانني.. أحاول الركض فلا استطیع!!.. وھي تصارع غرقھا، وتقاوم التقاط أنفاسھا كي تضیف لاستغاثتھا بعض الكلمات:

ــ أرجوك.. لا تتخلى عنيّ.. لن ینقذني من غرقي سوى وقوفك جانبي.. بل وقوفكم جمیعا معي.. نادي على من تعرف، لیساعدني.. أرجوك….

انتفض جسدي بقوة من ھول الفاجعة وصحوت عائدا إلى الواقع في عتمة اللیل، لأجد مستوى الماء قد اقترب مني، وموجات خفیفة متتالیة تضرب قدماي وتغطي جزءا منھا حینما یدفعھا المد.. نظرت حولي وارتحت لعدم وجود أشخاص جواري.. تنھدت وذھني لا تفارقھ صورة جلیانة الجمیلة، وكلماتھا التي جعلتني أغادر المكان وداخلي خلیط من احاسیس البھجة والألم والتفكیر والقلق والأمل.

 

بقلم المؤلف معتز بن حميد