شكرا شط النوارس

Port El Jebeha, El Jebha, Morocco

كأن الزمن توقف عند تلك اللحظة التي جعلت كل خلية من جسدي مصلوبة و متوثبة في آن ؛ تماما كمن يصارع لالتقاط أنفاس الحياة تحت أنقاض تسد عليه كل منفذ نحو الهواء و الضوء !

كانت لحظة بعمر ، فقد اكتشفت فيها أبعادا أخرى للنفس البشرية و للبدن الذي تسكنه . أجل ، لم أتخيل يوما أنني سأكون في مواجهة مباشرة و إرادية مع خوفي الأقصى و الأقسى، لكن هذا ما حدث و بإصرار مُلحّ مني ! و في غمرة هذا اللقاء الهائج و الهادئ معا أدركت أن روح الإنسان أرحب من السماء التي كانت تظلني ، و أعمق من البحر الذي أكلت المرافئ رمله و زَبده في شط النوارس.

شط النوارس أرض عذراء تغفو على كتف البحر الأبيض المتوسط ، و على ما فيها من جمال و تنوع جغرافي بقيت متوارية عن أنظار السياح و المستجمين و المسؤولين ؛ فقط بعض المراكب التقليدية تلقي بصبر البحارة و آمالهم في هذا الأزرق الذي تحسبه قد تشكل من دمع النساء المنتظرات عودة أزواجهن بأقل القليل المُستلّ من سطوة المالك الوحيد لهذه المراكب ، أما على الطرف الثاني فشباب يقتل وقته بين لفافات المخدرات و التيه في أحلام ترسمها الأعين في الأفق البعيد ، البعيد …

جلت بناظري مليا في هذه الدّرّة المهدورة من جيد الوطن ، و رأيت فيها غدا واعدا تقطّعت دونه السّبل ، و سهمت بعيدا في الطرف الآخر ؛ حيث طيف أوروبا الذي فتن الكثيرين ، فتركهم بين غرقى راحوا فداء لحسنها ، و سكرى ذابوا من وصلها ، و بينما كنت أتساءل بسذاجة لم لا يكون جنوب المتوسط هو القبلة المشتهاة للأحلام لا شماله ؛ شدّني منظر نورس اختصر كل المشهد من حولي ، بل كل الكون دونما مبالغة ، لم أعد أحس و أنا أنظر إليه بأي انتماء للمكان أو الزمان ، لقد كان هُما سويّا و أكثر ! بصره المسدد نحوي كاستفسار صبي متّقد السّؤال جعلني أسيره ، فسرت صوبه .

لم تكن المسافة بالقريبة و لا بالبعيدة ، هو يحطّ على ممشى إسمنتي مرتفع عني بنحو أربعة أمتار لا غير ، و أنا عاجز عن بلوغ مستواه بسبب فوبيا الأعالي التي حولت المسافة بيننا إلى ما يشبه مسير سيزيف الذي لا ينتهي … لم تكن المشكلة في الارتفاع و حسب ، بل تضاعفت بسبب ضيق الممشى الذي كنت أراه أرق من الشعرة و أمضى من الشفرة !

نظرته المخترقة ، الثابتة و الحارة تملكتني ، حاولت أن أصرف اهتمامي عنه . بقية النوارس ظهرت أمامه بلهاء يكاد الريق يسيل من مناقيرها ! حضوره كان طاغيا صارخا في صمته حتى أنطق مفاصلي ، فقررت أن أصعد نحوه عبر الدرج ، و بعد نصف المسافة تحولت إلى كائن مقعد تتحرك أنفاسه و عيناه فقط ، أصبت بخدر تام ، و أحسست بأن عمودي الفقري غمد فارق سيفه .. ألم شديد في الرأس ! دوار ! قلبي بين حجري رحى … و وصلت ، و وصلت !!

نظرة واحدة رفعتني ، و نقلتني من جحيم الخوف إلى فراديس الثقة ، فأي سحر ذاك الذي ضجت به مقلتاك الصغيرتان أيها النورس؟ أي سحر؟؟

 

بقلم المؤلف ابن علال سيدي خالد