“فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ”
في صباح خريفي، عتبتُ الباب الخارجي متجها إلى مكان عملي، قدماي تقوداني بشكل آلي، فقد اعتادتا الطريق لكثرة ما اختطتاه طيلة خمسة أعوام. حتى أن المرئيات نُقشت على صفحة الذاكرة، فكل ما أمر به تسبقه صورته قبل الوصول إليه.
أول ما تواجهني محطة ضخ الماء المقابلة لبيتنا، ألقي تحية الصباح على حارس يقتعد كرسيه متململا أمام بوابتها الحديدية، ثم أطأ تبليط الشارع بخطو متراوح بين السرعة والبطء. أمر بين حدادة سلمان ونجارة حسن ثم أخترق الساحة الترابية محاذيا متنزه المدينة، يتسخ حذائي، تغيب لمعته تحت ذرات التراب العالقة به، أستمر في المشي، أصل مرآب سيارات ذي سياج تقشر طلاؤه الأبيض، وتحول إلى لوحة خاكية لصور الشهداء من العسكريين، تعلو الابتسامات شفاههم، حتى لكأني أستمع لقهقهاتهم آتية عبر وجوههم النضرة وهم يتنكبون أسلحتهم الخفيفة أو يقفون قرب أخرى ثقيلة.
ألقيت عليهم السلام كما هي عادتي، ألجمتني صورة جديدة.. توقفت، اقتربت منها، قرأت:
_
الشهيد البطل موسى نعيم استشهد دفاعا عن الوطن والمقدسات في قاطع…
بودي لو استنطقت الصورة، كيف استشهد صاحبها؟ برصاصة قناص أم أثناء المواجهات، أو لربما بقصف مدفعي تعرضوا له، هل داهمهم انتحاري تمترس بالسيارة المدرعة ثم فجرها بينهم؟. كأنما صورته تنصت لتساؤلاتي، وبودها إخباري بما جرى في ساحة الحرب.
صورة لشهيد آخر، دُوِّن عليها بخط واضح أسمه ومكان وتاريخ استشهاده، إنه أحد ضحايا مجزرة أدمت القلوب لفضاعتها، أسروهم أثناء عودتهم عزلا من السلاح، ثم أطلقوا الرصاص على رؤوسهم وألقوا بهم في النهر، طافت جثثهم بمجراه الذي تحولت زرقته الصافية إلى أحمر قاني. وبعد أن أتخمت بالماء وصلت جثته لمكان تحت سيطرة الجيش، عثروا عليها ملقاة على الجرف، وكأنها تأبي إلا أن تُكفن ويُصلى عليها، ثم تدفن في مقبرة الشهداء، وقد نالت ما أرادت.
شهيد آخر، شاب في مقتبل العمر، وجهه كأنه فلقة القمر، يرتدي بزته العسكرية المنشاة، تمنح وجهه الناصع جمالا يوسفيا سلب لب فتيات المدينة اللواتي كلما مررن به تُلوى أعناقهن عليه وهن يتمتمن بكلمات إعجاب مشوبة برثاء. عشقته إحداهن، جاءته تبكي ذات ليلة حالكة، جثت تحته وناحت عليه بدمع سخي، لم تكن تعرفه قبل وفاته، ولكنها عشقت صورته المعلقة على الجدار.
بقربه صورة أبي كرار، جمعتني به صداقة قديمة، لم تفارق الرصاصة الأخيرة جيبه، كان يدخرها للانتحار إذا ما نفدت إطلاقاته، صدق حدسه، حوصر لوحده، كأني به وقد أخرجها، ألقمها مخزن البندقية، وضع فوهتها في فمه، لسعته حرارتها، كز عليها بأسنانه، تراجع عن قرار الإنتحار، وجهها نحوهم، قتل أحدهم، ألقي عليه القبض حيا، وضعوه في قاع بيك أب، تحلقوا حوله، طافوا به شوارع المدينة التي ستتحرر لاحقا على يد هذا الضابط الذي أراه أمامي مبتسما، بطل آخر من مدينتي أخذ بثأر صاحبه، ونال من الذين شنقوه على الجسر.
يعج الجدار بالصور المعلقة، إنها المعلقات السبع، أو العشر، تزداد يوما بعد يوم، ومع تكاثر الصور يبدأ الجدار بالحديث، فهو غير جدران الأنظمة الشمولية العالية، ولا هو جدار سجن أو قبو، ليس جدار سارتر أو لوركا، ولا هو الجدار العازل في بغداد أو القدس. إنه جدار مدينتي الذي كاد أن ينقض فاستقام بالصور، ليست له آذان تصيخ السمع وتسارع في الوشاية، إنما له فم يتكلم وحنجرة تصدح. يتكلم فيه الشهداء ويسردون قصصهم، فلكل واحد منهم حكايته.
بقلم المؤلف يوسف هداي ميس