العيـد فى عزبة النخل

Mosque in Alexandria, Egypt

البهجة البريئة المقطرة؛ أتشمم عبيرها الآن.. أحاول استعادة إحساسى القديم.. الليلة ليلة عيد.. يقترب الفجر حثيثاً.. أتأمل البخار المتكاثف فوق مياه ترعة المحمودية الرقراق.. أرانى ولداً صغيراً يجرى مع أترابه خلف “على السمرا” المسحراتى فى آخر ليالى رمضان.. وهو ينادى على كل بيوت القرية بالاسم.. يا حاج عربى عتيبة كل سنة وأنت طيب، العيد بكره.. يا سيد يا عطار كل سنة وأنت طيب، العيد بكره.. يا محمد يا عزب كل سنة وأنت طيب، العيد بكره.. وبين كل اسم وآخر ينقر على طبلته تلك النقرات الحبيبة التى لن نسمعها إلا بعد عام كامل.. ونحن خلفه ككورس فى سيمفونية “مهرجلة” لم يتم الإعداد الجيد لها.. نتصايح ونردد: العيد بكره.. العيد بكره.. ونتضارب.. ونتدافع.. ونضحك..

نجرى إلى الساحة أمام المسجد.. نلعب بجوار النخلتين المتعانقتين و”حنفية المياه” التى تملأ منها كل بيوت القرية.. نخلع ملابسنا.. نتقاذف بالمياه المندفعة فى هدأة ليلة العيد كموسيقى ذات وقع حلمى.. نرى “جدو” قادماً فى خطى شاب تعدى الثمانين.. لا يستند على عصا.. العزيمة تملأ جسده النحيف المحنى الأكتاف ووجهه الممصوص ورقبته المعروقة، الطاقية الشبيكة يبين من تحتها شعره الفضى الخفيف.. اسمه عبد الرازق.. مات مرتين.. غُسِّل.. وكُفِّن.. ثم يقوم بأكفانه ضاحكاً: والله لأوصلكم كلكم للقبر بإيدى يا بلد عيال!..

يناول مفتاح المسجد لأحدنا ليفتحه.. نخلع أحذيتنا ونلقيها المسجد.. ونبدأ فى “خدمة العيد”.. أحدنا يمسك المكنسة.. وآخر يأخذ دلواً ليملأه من الحنفية.. وثالث يلملم الحصير ويضعه أمام المسجد.. نكنس المسجد جيداً.. ونغمره بالماء أكثر من مرة.. ونجففه.. وننفض الحصير ليصبح كالجديد.. ونفرشه.. ونجرى إلى “جنينة الدياش” (التى أصبحت مصنعاً للأدوات الصحية!!).. ونقطف ورودًا نضعها فى أركان المسجد.. ويخرج جدو من جيب الصديرى زجاجة مسك يرشها كلها فى المسجد..

ننتهى من العمل كله والفجر لا يزال بعيداً.. بقيت ساعة أو أكثر.. يطلب منا جدو أن ننام على الحصير لنستريح.. لكن الأولاد لا ينامون فى ليلة العيد.. نخرج من المسجد.. نلعب حول النخلتين.. نقذفهما بالطوب ونجمع البلح المتساقط.. يتسلقهما بعضنا ليجلب مزيداً من البلح.. نغسل البلح.. نجرى به إلى جدو.. يفرح به جدو “سنعطى لكل مصلٍ بلحة”.. نتحمس.. نجرى لنأتى بكميات أخرى من البلح.. نغسلها.. ونعطيها لجدو..

نشعر بالتعب.. فنسرع إلى الحنفية.. نخلع ملابسنا.. نستحم.. نجرى إلى المسجد.. جدو مستند برأسه إلى الحائط وصوت شخيره يملأ المسجد.. يُقبل الشيخ عبد المحسن:

-السلام عليكم.. كل عام وأنتم بخير يا أولاد

-وأنت بخير يا سيدنا الشيخ.. وأنت طيب يا مولانا

يستيقظ جدو من غفوته.. يبتسم.. يجلس الشيخ بجانبه.. يتعانقان:

-كل سنة وأنت طيب يا جدو

-وأنت طيب يا شيخ

يصعد الشيخ عبد المحسن فوق سطح المسجد.. “الله.. الله.. الله”.. ينشد التواشيح والتواحيش بصوته الندى الشجى.. يتوافد المصلون.. الوجوه مغسولة بالفرحة.. الملابس زاهية الألوان.. تمر النساء بملابسهن السوداء ليذهبن إلى المقابر ليعيدن على أمواتهن.. بُح صوت الشيخ وهو يؤكد أن زيارة النساء للمقابر حرام.. ولا استجابة..

يمتلئ المسجد والساحة أمامه بالمصلين.. تنتهى الصلاة.. ننطلق إلى بيوتنا.. نتناول فطور العيد مع العائلة.. نرتدى الملابس الجديدة.. نخرج لنلعب بالبمب.. نركب المرجيحة التى يقيمها فى كل عيد “فوزى الملك” ببعض عروق الخشب القديمة..

“الله.. الله.. الله”.. صوت الشيخ منصور يأتينى عبر الميكروفون.. يأخذنى من الذكريات الجميلة.. أقوم.. أتوضأ.. أذهب لصلاة العيد.

 

بقلم المؤلف منير عتيبة