تلك النظرة

Cairo, Egypt

أتقافز أمام تلك السيدة العجوز مستعطفا إياها من أجل ما تجود به. أمني نفسي أنه سيكون كافيا كي أصل للمبلغ المطلوب. تبحث في حقيبتها بضيق قبل أن تعطيني بضعة عملات معدنية. أخشخش بها بسعادة. ينقصني القليل لأعود للمنزل.

يبرد الجو أكثر، فأكثر. أضم قميصي إلى صدري و أحك ساقاي ببعضهما طلبا للدفء. لدي ملابس ثقيلة في المنزل لكن يحرم علي ارتدائها في العمل. بالله عليك كيف سأستعطف أحدا إذا لم أرتجف بردا؟ أرمق ذلك الشاب و تلك الفتاة. ابتسم بخبث. خجل أول لقاء. يحاول أن يمسك بيدها وهي تتحاشى ذلك متصنعة النظر إلى واجهة إحدى المحلات. هدف ممتاز! اقترب منهم راسما على وجهي أعتى ملامح التعب و العذاب طالبا صدقة بصوت مبحوح. تلك النظرة! ترمقني الفتاة بألم حقيقي . تملؤني مشاعر متناقضة من الشعور بالذنب تجاهها و الشعور بالفخر لأدائي. يرتبك الشاب و يدفع يده في جيب بنطاله وهو يرمقني بتلك النظرة! نظرة تتمايل بين الكراهية و الإحراج و تصنع العطف! أنا لست أحمق! ربما أكون في التاسعة، لكن سنوات عملي في الشارع أكسبتني خبرة ضخمة. ينقدني عملة ورقية فيرقص قلبي.. تلك النظرة! الفتاة تزفر بضيق و تمد يدها لتنقدني عملة أكبر! اشكرها و أنا أعدو متراقصا. فتاة ساذجة إلا أنها قلصت ساعات عملي.. أبي لن يدعني أدخل إلى المنزل إلا بعد أن أنقده الثلاثمائة جنيه ..كاملة!

اقترب من ذلك المقهى. سريعا ما سيطردني القهوجي أو صاحب القهوة شخصيا. شيخ كبير يشير إلي.. يعطيني ما يجعل حصيلة يومي يتخطى المطلوب مني. أكاد أعود إلى المنزل إلا أنني أقرر أن أجلس لأحتسي كوب من السحلب الساخن. معي ما يكفي و زيادة. يضحك الشيخ الكبير عندما يجدني أجاوره , و يأمر أن يدفع لما سأطلبه. يأتي القهوجي بكوب السحلب الساخن. تلك النظرة..لا مبالاة كأنه لا يراني. هذا الرجل مل كل شئ فأصبح عاجز عن الرؤية.. كأنه أعمى.

الشاشه الضخمه أمامي فيها مذيعة ترتجف بردا. تتحدث من أمام مخيمات عن أوضاع إنسانية صعبة وأطفال تموت من البرد. أشعر بالبرد يتسرب إلي من التلفاز فأمسك بكوب السحلب الساخن. آخذ رشفة ساخنة تحرق لساني و جوفي و تشعل النار في وجهي. حسنا هذا أفضل فالآن أشعر بالدفء. مازالت المذيعة تتحدث. مهلا.. هناك طفل في الخلفية. طفل في مثل سني يجلس أمام الخيمة بشرود هو للذهول أقرب. المذيعة تتحدث عن أشخاص فقدوا أموالهم ومنازلهم في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل.. كان لديك بيت إذا؟ سألته السؤال في سري كأنه يجلس أمامي إلا أنه لم يستجب. على الأرجح كنت في المدرسة أيضا. ربما كان لديك أصدقاء و ملابس نظيفة و ألعاب و دراجة. وجدته يرمش كثيرا كأنه منفعل…ثم رفع عينيه إلى الكاميرا.. كأنه يسمعني.. كأنه ينظر إلي! تلك النظرة! ظللنا نتأمل بعضنا البعض للحظات..تغطيه الثلوج و الآلام.. تغطيني المسؤولية و التعب. لمعت عينيه للحظة ثم أفلتت منه دمعه فأشاح بوجهه عني كأنه علم ما يدور برأسي. كنت أحقد على الأطفال الآخرين . يمتلكون مالا أملكه.. و لن أملكه يوما. أما ما رأيته فأشعرني بالشفقة عليه. هو امتلك كل شئ ثم في لحظة أصبح في وضع أسوأ مني. أمسكت بكوب السحلب لأشربه دفعة واحدة وأنا أرحل نظرت إليه مرة أخرى فوجدته يودعني بعين مكسورة… فيها ذات تلك النظرة!

تمت.

 

بقلم المؤلفة نسمة عاطف