حكاية باتر

سوق البخاريّة القابع في وسط البلد بعمّان

هناك بين الممرّات الضّيقة و في أثناء اكتظاظ الأزقّة والشّوارع يجرّ عربَته الممتلئة بأنواع الكعك المخبوز بعناية، يمَضي مع عربته النّاطقة بتفاصيل خفيّة تشي بذكريات مفعمة بطعم اللّذة والكفاح، ينطلقُ كلّ فجرٍ ليلتقط رزقه المبعثر في أحياء المدينة الحالمة، ويدفع عربته المغطّاة بناموسيّة صغيرة متّجهاً نحو سوق البخاريّة القابع في وسط البلد بعمّان.

يقضي أبو باتر ذو السّتين عاماً نهاره بابتهاج يزيّن قَسمات وجهه الذي بدت عليه آثار الكدّ، ويطالع من يقابله بابتسامة عريضةٍ تُفصِح عن البهجة والرّضا، يتنقّل في جنبات السّوق الواسع الذي يروي حكايات تمازج حضاريّ حيث تنتشر المحلاّت المزيّنة بالمنسوجات القديمة، والمطرّزات الزّاهية، والتّحف النّادرة.

هكذا يمضي أبو باتر نهاره متنقّلاً هنا وهناك، مترنّماً بألطف العبارات: (يلا يلا الي بدو يفطر ويروق ..يجي من هالكعك يذوق) (اترك الي بايدك وسيبو … كلّ واحد يجي يآخذ نصيبو) (يلا تعالي يا تولاي هالكعك بدو أطيب كاسة شاي) فتهيم الأمّهات بأطفالهن ويقبلن لشراء قطع الكعك المخبوزة باحتراف.

يتعمّد الرّجل السّتينيّ الوقوف أمام دكان الأنتيكة لينتهز فرصة القاء التحية للعمّ كامل الذي سرعان ما يبتسم ابتسامةً عريضةً ويردّ التّحيّة بصوته الحادّ: أهلاً أبو باتر طيّب الله صباحك تفضّل عنّا، فيردّ عليه رافعاً يده بامتنان شديد، ويتابع بعد ذلك أهازيجه الجاذبة.

يتابع السّتينيّ جولته في أرجاء السّوق، ثمّ تبدأ أشعة الشّمس المُحرقة بحزم أمتعتها، عندها يعاود أبو باتر المرور من أمام دكان الأنتيكة وينادي (بشير) ذاك الصّبي ذو العشر سنوات ليضع في كفيّه الجافيْن بعض الدّراهم، ويقول له: (امسك هدول يا عمّي الله يبيّض دربك) فيستيقظ الفرح في عيون الصّبي وينير وجهه الشّاحب معلناً عن سعادةٍ بالغة، فيعلّق العمّ كامل بمحبّة لا تخفى: ربّنا يجبر خاطرك … ويفرحك بباتر، فيستقبل أبو باتر تلك الدّعوة بعينين حائرتيْن مستسلمتيْن ويمضي باتجاه المسجد الحسينيّ الكبير، ثمّ لا يلبث أن يرجع إلى منزله المتهالك الكائن في إحدى أزقة المناطق المجاورة.

وفي صبيحة نهار مشرقٍ، وبعدما تعالت أصوات الباعة، يتفاجأ العمّ كامل بصبيّه بشير يركضُ لاهثاً، وقد بدا الذّعرُ على وجه، فيرتعش العمّ كامل صارخاً: (خير يا عمّي؟) فيردّ بشير متلعثماً وقد ابتلع الذّعر صوته: (عمّي أبو باتر مو موجود!) فيمسح العمّ كامل رأس الصّبيّ قائلا: طوّل بالك عمّي، ويمرّ النّهار ببطء غير معتاد والسّوق كأنّما ينادي بحزنٍ ذاك السّتينيّ الأصيل.

ويمضي النّهار، فيغلق العمّ كامل دكانه، ويأخذ صبيّه إلى منزل أبي باتر بعد أن حصل على عنوان سكنه من العطّار درويش، ويمضيان على عجل، ويصلان إلى المنزل، فيطرقان الباب بذوق شديد.

يفتح أبو باتر مبتسماً، ويرّحّب بضيْفيه، ويدخلان المنزل المتشقّق الجدران، ويجلسان بقلق، فيقطع أبو باتر السّكوت الرّتيب قائلا: حسيّت بدوخة الصّبح قلت أرتاح اليوم… شرّفتوني بزيارتكم… يا مرحبا فيكم، فيجيب العمّ كامل: قلقنا عليك… ربّنا يعافيك، ثمّ يقف الصّبي بشير ويقبّل رأس أبو باتر بدفء عميق قائلا: (الله يشفيك… عمّي وين باتر نفسي أتعرف عليه؟)، فتسود لحظة صمت، وتتطاير من عينيّ الرّجل نظرة شوق ولهفة ولوعة، ويلقي ببصره نحو برواز قديم معلّق على الجدار تستقرّ فيه امرأة ثلاثينيّة، جميلة الوجه، ترتدي ثوباً مطرّزاً، ويقول: كانت تولاي أم باتر حامل بشهرها السّابع … ربّنا يرزقها النّعيم. كانت تحبّ الكعك كثير. أكيد باتر مبسوط مع العصافير، عندها ارتمى بشير في أحضان أبي باتر، وعمّت أحاسيس متضاربة نفوس الجالسين..

 

بقلم المؤلفة هداية الرزوق

اختر مغامرتك

ويبقى السؤال:

أ) أويكون للحياة معنى إذا حملنا أسماء الذين ماتوا في الأرحام؟

ب) هل ستناسب الصورة الإطار علما أنّ الإطار هو من يحدد دائما شكل الصورة؟