وأخيراً

Sabeel AlHoriyat, Amman, Jordan

كم تعرقل بقدمَي “ختيار” متمدّد على الرصيف، لكنه لم يجادله يوماً، فكلّ عرقلة تسبقها حالةٌ تستوجب الرّكض، والنّشل خفّةٌ وتَخَفٍّ، تسانده الحطّة التي تغطّي المنتصف السفلي لوجهه على ذلك. الحقّ على “الختيار”، الذي بدا أنه يعشق كلّ شبر في وسط البلد بعمّان، فلم يلتزم برصيف ثابت حتى يحفظ “عاهد” مكاناً له.

يسترزق من الشحادة، وهي تتطلّب الخفة أيضاً، فتجده في سوق الخضرة يخفي وجهه المليء بحروق الشمس تحت طاقية لمّا ينام، أو يفترش أرضية المدرّج الروماني وشبابيك سوداء تطل من بين أسنانه لما يضحك، وقلّما كان يفعل، إلا إن تعلّق الأمر بسائحة أجنبية ترطن بوجه أحد ممن يعاكسونها.

نشلٌ وقمار وفرض خاوات، هكذا عهدت الناس “عاهد”، فحاروا في السبب الذي جعله يؤوي “الختيار” في بيته، حتى أن مكائد جميلة، زوجته، في التخلّص منه باءت بالفشل، فتَقبّلته أمراً واقعاً، لم يزاحمهما على شيء، فالمطبخ مُستقرُّه، لكنه يكشف الغرفة المجاورة والوحيدة من بابه المخلوع، فاهتدت وعشيقَها إلى وضعِ ستارٍ رفعَ ذراعيه في منتصف الغرفة، وغالباً لم ينسيا إسدالها.

يعرف عن العشيق، ويراه في تقلب وجه الختيار كلما عاد للبيت مساءً، لكنه لا يجرؤ على المواجهة؛ يتخيّلها.. تتخصّر وشفتاها تتحركان كأن صعقة كهربائيّة أصابتهما، تعيّره بما يشين الرجال.. يا للفضيحة، فلتفعل ما يحلو لها.

مَن قال له يومها أن يتشاجر على رغيف؟ هو الطمع! فقد أكل في اليوم الذي سبق الحادثة ربع رغيف ألقاه طفل في سوق الخضار، وتناول ثلاث حبات بندورة نصف “مخمجة” تدحرجت من يد “الخضرجي”.

كانت السكّين التي تلقّاها دافعاً كافياً لـها كي تُواعد غريمه، إذ ما عادت تبادله شيئاً، فتوطّدت علاقته بالشارع، وملّت أزقّةُ سقف السيل مواعداتِه الفاشلة. يتجنّب سبيل الحوريّات لذكرى الحادثة التي وقعت قربَه، فيلوذ بالمدرّج الروماني، أو الساحة الهاشميّة “يتسكّع” وصحبه، يلتقطون السيّاح ببيعٍ زهيد، من “دناديش” يدّعون أنها تراثيّة.

لم يتصور أن يفترق عن “الختيار”، الذي توجّه لـ”لخاوة” كي يلمّ شمله مع أبنائه ولم يفلح، خمسة وألقوا به، ياااااه، ماذا ستفعل به جميلة حينما يكبر! هل ستتقبّل عجزه الثاني؟

“الله يرحمه، حتى أولاده ما مشوا بجنازته! قديش كان فرحان عشان ما قدروا يخلوه يتنازل عن أملاكه، هيّه مات، يشبعوا بيها”.

هذا الكلام لم يكن مونولوجاً، بل ما قاله لصديق “الختيار” الذي وافاه مشياً بعد انقضاء مراسيم الجنازة، في مقهى لا يدفع به “عاهد” قرشاً، ليس من باب المحبة، بل انصياعاً لـ”الخاوة”، وإلا فالنتيجة تحطيم المكان برمّته.

“مَرّ عليّ قبل وفاته بفترة، وأعطاني هالمغلّف إلك”.

مدّه إليه، يراقب أظافره الوسخة وهو يتلقّفه..

“ما بعرف أقرا”.

“دبّر حالك، المهم بكره الصبح ما تطلع من الدار، جايّك حدا من طرف المرحوم”.
وابتلعه الازدحام، عاد يلوّح بالمغلّف مطمئناً إلى قراءة جميلة.
ألفى عشيقها في البيت، فتفجّرت الدنيا في رأسه؛ سبيل الحوريّات، سوق الخضار، الموت والعشيق، هجم عليه.. وأحاله حطاماً، الصعقة الكهربائية التي تخيّلها حدثت، لكن لم يفسح مجالاً كي تعيّره؛

“بيكفّي،.. انت طالق”.

أطلقت زغرودة عالية المدى، ساهمت الغرفة المفرغة من الأثاث بجعلها عالية الصدى.. ثم اختفت.

بكى كثيراً حدّ الضحك، وضحك ثملاً حتى بكى، ثمّ نام.. وكما تنتهي حكايات الجدّات الملأى بالمفاجآت السعيدة:

“قوم، أبو عون سَجّل باسمك دار.. ومصاري كمان”.

فتح عينيه ورجلٌ ينكزه، رفع يده يداريهما عن ضوء الشمس؛

“الختيار!!”

 

بقلم المؤلفة سمر رضوان الزعبي

اختر مغامرتك

عندما يصبح كل شيء جليّا وواضحا للعيان فإنّ ذلك يكون راجعا ل:

أ) التطور الذي حّول البشر إلى القردة.

ب) الذكاء الآلي الذي وصل إلى القمة وأصبح يمازح العناية الإلهية.