تناهى إلى سمع حمادي صوت منبه السيارة الحاد المباغة. فتراجع إلى الخلف دون أدنى تفكير. تسارعت دقات قلبه. و أصابه صمم مؤقت. زاغ بصره. و جف فمه. رأى السيارة تمر حذوه بسرعة جنونية. لم يصدق أنه نجا من الموت للمرة الثانية في ذلك اليوم. اِمتدت يده لتلامس وجنته حيث لازالت تستقر دمعة. تزاحمت ذكريات هذا المساء متداخلة أمام عينيه. رأى روبارتو الذي عانقه بحرارة. أبصر وجوه ماريا و إميليو و صوفيا و غيرهم تتزاحم حوله مهنئة راضية مدينة له بالعرفان.
داخله شعور بالفخر و السعادة العارمة. أخرج من جيب بنطاله علبة السجائر. أخذ منها سيجارة. لامسها لسانه. فلسعته برودتها المرة. أشعلها. و نفث الدخان بقوة على شكل كريات بيضاء تصاعدت إلى السماء. اِسترخى جسده. و سرت فيه قشعريرة.
تذكر ما حصل له في منتصف ذلك اليوم. كان في الطابق الثاني من متحف باردو برفقة مجموعة من السواح الإيطاليين. كان دليلهم السياحي الذي كان يرشدهم و يخبرهم بكل قصص النفائس التي يحويها المتحف. سمع فجأة أصواتا مدوية. فخيل له أن شيئا ما قد سقط من السقف. أخبر السواح بذلك. لكنهم لم يوافقوه الرأي. و قالوا له أنهم كانوا بصدد التعرض لهجوم إرهابي. لم يرغب حمادي في تصديقهم. فاِتجه بخطوات سريعة إلى الدرج المؤدي إلى الطوابق السفلى. أمسك بالدرابزين. و أطل. فرأى بأم عينه الثقوب التي خلفتها الرصاصات في الحائط. جثا على ركبتيه. و كذلك فعل مرافقوه. نظر إلى ماريا التي تبعته مع بعض أفراد الفوج السياحي الإيطالي. جحظت عيناها. و اِغرورقتا بالدموع. و كتمت يدها صرخاتها المبحوحة. أبصر في عيون كل من كان حوله الرعب و العجز. اِنتابه القلق و الاِضطراب. لكن سرعان ما اِستجمع قواه حين خطرت بباله فكرة. فاِنتصب واقفا. واِتجه مباشرة إلى أقرب مخرج طوارئ. فتبعه أغلب مرافقيه الإيطاليين. خرجوا من باب جانبي لمبنى متحف باردو. اِندهش سائق الحافلة التي أقلتهم حين رآهم مقبلين عليه راكضين. رأى حمادي رصاصة ملقاة على الأرض. فاِلتقطها. و واصل العدو باِتجاه الحافلة. و طلب من السائق أن يوصلهم إلى ميناء حلق الواد.
اِسترجع حمادي تدريجيا وعيه بالزمان و المكان. و اِنقطع حبل الذكريات. تحسس جيب سترته السوداء حيث كانت تقبع الرصاصة. أخرجتها يده المرتعشة. اِشتم رائحتها. فأحس بالذعر. نظر إلى الحوض الذي توسط الرصيف حيث زرعت نخلة. حفر بكلتا يديه حفرة صغيرة. و دفن الرصاصة فيها. و أهال التراب عليها. و واصل طريقه و قد اِرتسمت على شفتيه اِبتسامة باهتة ملؤها الطمأنينة و الخوف من قادم الأيام.
تونسيّ الجنسيّة من مواليد غرّة سبتمبر 1981 بمدينة تونس. تحصّل سنة 2007 على شهادة دار المعلمين العليا بتونس في اللغة و الآداب العربيّة. حاز سنة 2015 على جائزة ناجي النعمان الأدبيّة (جائزة الاِستحقاق) عن مجموعة قصائد نثريّة. صدرت له مجموعة قصص قصيرة جدّا بعنوان “حدّث و لا حرج” عن دار ليليت سنة 2015. كما صدرت له مجموعة ثانية بعنوان “متاهة” عن دار ميلاد للنشر و التوزيع سنة 2017.