أول يوم تشرق فيه الشمس علي في الإمارات.. لم يضيع أخي كمال وقتا، أول ما أخذني إلى الشارقة وهناك اكتشفت أن له علاقات واسعة وحميمة في كل الإمارات تقريبا، وذلك لعمله المهم في جريدة الخليج..
الشارقة فتاة خجولة حيية تتسم بالوقار والجمال ترتدي ثوب العلم والثقافة.. بينما دبي تضج بالحرية والحياة لموقعها التجاري المهم، الطريق إلى أم القيوين وعر محفوف بالمخاطر، وأول هذه المخاطر “الهجن” التي ترعى في الخلاء بلا صاحب ولا راع.
بدأت سحابة من اليأس تجتاحني بددها أخي كمال:
أ تيأس من أول يوم..
عندما وصلنا إلى البيت أخبرتنا سهام زوجته أنه تم تعييني في بنك أم القيوين الوطني..
فجأة تحول كل شيء إلى الاتجاه المعاكس.. اختفاء مستندات مهمة من درج مكتبي، إلغاء المدير تعاقدي، وترحيلي إلى مصر..
انتبهت على صوت بجانبي في طائرة العودة، كأنه يحدثني:
مقدر ومكتوب..
التفت لأجد رجلا عجوزا له لحية بيضاء خفيفة.. سألته بصوت خافت:
أتحدثني..
هز رأسه دون أن ينظر إلي:
بل أحدث كل نفس مهمومة..
ابتسمت في مرارة:
الجميع هنا سعداء يضحكون في سرور..
ضحك وهو يعقب:
لا تحكم بالظواهر يا بني.. خلف الوجوه الباسمة قلوب تحترق، فطائرة العودة غير طائرة الذهاب..
اقتربت منه وأنا أقول بصوت خفيض:
كأنك يا والدي تتحدث عني.. بالله عليك من أنت؟
ضحك وهو يعبث بلحيته:
أنا عمك قنديل.. عشت في هذا البلد أكثر من عشرين عاما.. عرفت كل شيء فيه..
كنا نحلق في السماء عندما بدأت أقص عليه.. بعد أن انتهيت هز رأسه وقال:
يجب أن تعرف أننا في هذه الدنيا أسباب.. خروجك من مصر وعملك في أم القيوين ثم رجوعك ثانية.. هذه الحركة الدائرية سبب لاستمرار الحياة وتدفقها..
قاطعته:
كل ما أبغيه أن أعرف الحقيقة.. من سرق المستندات، من وشى بي عند المدير؟
ما الفائدة.. يا بني نحن جميعا أسباب دون أن ندري..
تركته وعدت أفكر في زوجتي وابنتي اللتين ينتظراني في المطار، اشتقت إليهما فأخرجت جهاز التسجيل وبه “شريط الكاسيت” لأستمع إليهما.. ضغطت زرار التشغيل وبدلا من أن يأتيني صوتهما أتاني صوت آخر أعرفه جيدا.. صوت سهام زوجة أخي.. تتحدث مع صديقة لها في الهاتف.. كان صوتها واضحا:
أخيرا سأتنفس بعد أن ظل أربعة أشهر جاثما على أنفاسي.. لا تتصوري ماذا فعلت حتى أخرجه من حياتنا.. أنا التي أخذت المستندات من حقيبته واتصلت بمديره في البنك وأخبرته بأنه ينقل أسرار العمل إلى البنوك الأخرى المنافسة، طبعا يا نورا.. أنا سهام والأجر على الله..
كنت أستمع إلى الشريط غير مصدق، وشعرت للحظة أن الطائرة تهوي بي في أعماق سحيقة وأسرعت أوقظ قنديل:
عم قنديل.. لقد عرفت من سرق المستندات ووشى بي عند المدير.. عرفت الجاني يا عم قنديل..
ابتسم قنديل وراح يواجهني بعينيه العميقتين:
ماذا سيفيد يا بني.. لقد أقلعت الطائرة وانتهى الأمر..
أخرجت الشريط من الجهاز وضعته جانبا، بينما كانت الطائرة تحلق بنا في سماء القاهرة، وبدأت تهبط شيئا فشيئا حتى استوت على الأرض.. تركنا مقاعدنا، وقبل أن أهبط الدرجات سمعت صوتا خلفي يصيح:
يا أستاذ.. هذا الشريط كان على مقعدك..
كانت المضيفة تمسك بشريط الكاسيت.. دليل الجريمة.. كدت أمد يدي، لكنني صحت وأنا أبتسم:
معذرة ليس شريطي..
بقلم المؤلف صلاح الدين محمود محمد معاطي