كانت الطائرةُ ترصدُ المدينةَ من الجو بينما كنا نحدق رأينا القناديل الصغيرة تتلألأ في أزقةِ صنعاء.
هبطت الطائرة، أخذنا صاحب التاكسي من المطار إلى مسقط رأسي، صنعاء القديمة.
وصلنا إلى فندقٍ قديم، فندق (داؤود)، كُتبت لوحته بثلاث لغات، حجزنا غرفتين متجاورتين أنا وصديقي الألماني.
كان مندهشاً جداً لجمال هذه المدينة التي قرأ عنها، مدينة السور القديم “Old walled city”.
نمنا، وما إن استيقظنا خرجنا متنقلين عبر الأزقة، مكبرات الصوت تنداح في آذانِنا قادمةً من جوامع صنعاء، إنه وقت الظهيرة.
طُفنا في الأزقة، واحداً تلو الآخر، ما من أحدٍ كان هناك، أغلق الباعةُ محالَّهم التجارية واتجهوا نحو المساجد.
بعد فترة تجوال وجيزة، عدنا من حيث أتينا.
في الطريق ناكفني صديقي بسؤال مليء بالدهشة:”ما هذا؟”، وأشار إلى مربع صغير على الجدار، أجبت : ” إنها مجاري المياه، يستعملها سكان صنعاء لسقي الزرع في (المقشامة) أثناء هطول الأمطار.
قال بلكنته تلك: “امممم، هذه المدينة أغرب مما قرأت عنها”.
ابتسمتُ له ابتسامة مشاغبة، ثم واصلنا سيرنا عائدين إلى فندق (داؤود)، وفي لحظة وصولنا رأينا بئراً على الميمنة منا، أراد صديقي مشاهدته عن قرب، أخذنا الإذن من القائمين عليه.
اقرأ المزيد
“بئرٌ يفشي الأسرار”
فري لانسر
انتقلت إلى هذه الشقة منذ عامين؛ مجرد مُزحة تجعلني أبول في لباسي من فرط الضحك والبكاء، لم تكن سوى غرفة بطرقة متواضعة، أضع فيها طاولة حاسوبي؛ نافذتي الوحيدة المشرعة على العالم، تفضي إلى دهليزٍ ملتوٍ لا طائل من ورائه سوى وجود حمام في نهايته.
كان عليَّ أن أهبط ثلاث درجات لأصل إلى قاعدته التي حال لونها، أرى من جلستي المضطربة منورًا منغلقًا على نفسه من خلال شراعة حديدية مثبتة في أرضية الحمام تجعلني أتلفت ناحيته كثيرًا بخوف وترقب وأنا أقضي حاجتي، لابد أن زوجي أوفر مني حظًا مادام لديه إيرًا يمكنه من التبول واقفًا!
عثرت على هذه الشقة بعد لف ودوران، وجدت الإعلان على موقع بيزوات “شقة لقطة في أحد أحياء مصر القديمة، لراغبي الهدوء والاسترخاء”، اتصلت بالرقم (هذا الرقم غير موجود بالخدمة، من فضلك تأكد من الرقم وعاود الإتصال)، تركت رسالة على الموقع وضغطت “إرسال”، فظهر الرد أتوماتيكيًا (سأنتظرك عند محطة الملك الصالح الثامنة مساءً)، (كيف سأعرفك)، (سأعرفك أنا)، اندهشت.
زوجي كعادته منشغلًا في مشاهدة الأفلام والتسكع، ذهبت بمفردي وبمجرد أن وصلت إلى الباب الرئيسي سمعت صوتًا يهمس خلفي (من هنا)، انتفضت متطلعة إلى الوجه الممصوص والعينين الغائرتين، (كيف ...اقرأ المزيد
الرجل الذي تخلى عن ملابسه
خطاب القائد المُفدّى كان يُذاع في كل مكان كنفخ البوق، يسأل عبر الشاشات: “من أنتم؟!”. السؤال الوجودي التزمت به المقاهي والمحال في انتظار أن يخرج هؤلاء الذين يتحدث عنهم القائد من منافذ مكيفات الهواء والتي قلّ استخدامها بعد زيادة فواتير الكهرباء.
الشارع المظلم هو المسلك الوحيد لغرفة “رفيق”، أخبرني سيد نجمة، صاحب الكشك المجاور لغرفته أن القائد يلقي بيانه من موقع قريب، وكشف لي عن تمنيه القديم بأن يلقاه، ثم أخبرني أن رفيق لم يبرح منزله منذ أسبوع. أعطاني ورقتي بفره ثم تمتم: “يبقالنا يا باشا”، وانصرف لسؤال القائد الأعلى في التلفاز: “من أنتم؟!” وهو يزم على شفتيه إعجاباً، فأواصل السير مبتعداً.
يُطبق الضيق على جدران الشارع المحاذي لشريط المترو، قرب ضريح شهير لزعيم سياسي، شعارات ضد القائد وشعارات أخرى ضد من يشتمون القائد وشعارات ثالثة ضد الأثنين في تلاحم وطني مؤثر. بيّد أن تلك الوطنية يبول عليها المتجهين للسلالم العابرة للناحية الأخرى من الشارع المشطور بالقضبان.
أهرب لرفيق من نوبة الرحيل التي تجتاحني ليلاً وتمنعني من المكوث في مكان واحد فأبقى متواثب من لا وجهة إلى لا وجهة أخرى. آما أصدقائه فيغفلون عنه إلا ...اقرأ المزيد
ورقةُ قلعة شميميس
أخبرتْها أخت زوجها أنه يريد أن يرسل لها ورقتها في غضون يومين .. قالت لها ذلك في السر وبكثير من الأسف:
—نور عزيزتي شعرت أنه عليّ إخبارك.. ربما أكون قد أخطأت بهذا .. لكنّك تعلمين معزتك عندي وقلت في نفسي ربما لديك تفسير
نور: لا أفهم صدقيني حقاً هو قال لك ذلك ؟!.. سيرسلُ لي ورقة الطلاق خلال يومين! وهل أوصاك ألا تخبريني
—لا.. أبداً , سمعته يتكلم على الهاتف, قال إنه سيصحبك إلى قلعة شميميس حيث طلب منك الزواج منذ أعوام ويعطيك ورقتك هناك, أرجوك يا نور تداركي الأمر قبل أن يقع الفأس بالرأس
—أي أمر!, صدّقيني لا أستوعب هذا الكلام
طيب ركزي معي دعينا نتكلم بصراحة وأخبريني إن كنتما تمران بأزمةٍ ما في حياتكما.. ربما إن عرفنا السبب بطل العجب
—في الحقيقة أحاول منذ أخبرتني أن أفكّر, علّي أجد مبرراً لقراره هذا , منذ فترة ونحن نعيش روتيناً.. لكن لا خلاف أو صدام مباشر, علاقتنا الزوجية مستقرة, لكن منذ أسبوع لم يحدث بيننا شيء لأني متوعكة قليلاً.. لكن لا.. هذا ليس سبباً أليس كذلك؟
—ما عرضتِه لا أظنه يشكل سبباًً مباشرا لكن ربما تراكم الأسباب, فكري ...اقرأ المزيد
أبي لن يعود
—لِكِيْ، لِكِيْ، لِكِيْ..
—ماذا دهاك؟
—أسمعُ صوت قلبك الخفيْ.
—لستَ ماموثا يا رجل، لا تُصدِّق كلّ ما تسمع!
—وما علاقة الماموث بالموضوع؟
—الماموث لديه قابلية عالية لتصديق أيّ شيء، لذلك لم يستطع حماية نفسه من الانقراض، كان يسمع الاشاعات عن قدوم عاصفة ثلجية، فيمكث في الداخل حتى يتجمّد! الماموث لا يواجه..
—مسكين!
—حسنا، أنت لديك حسّ مرهف، تحتاج إلى الغناء.. إبدأ الآن وغن لي “تيرا را را” بصوتك الجميل..
—“لِكِيْ” أرجوك توقف واجلس إليّ، لا أدري حتّى كيف تجرؤ على مقابلتي بكلّ هذه الحياة، وكأنّك تريد أن ترقص! أن تطير.. قد كنت حزينا لأجلك كثيرا، كثيرا..
—هـِـيْ …! يا قلبي على النور في عيونك، هذا البريق في عينيك يذكرني بشيء ما، قل لي من أنت وماذا تفعل في الأرجاء؟
—هل تحسب أنّها منطقتك المحروسة..؟
—إجلس، إجلس إليّ..
منذ أن دخلت هذه المدينة “بئرقاصدعلي” لم أكن مرتاحا، الناس هنا سُباتيون والمشعوذون كثر، أسوأ مكان يمكنك أن تكون فيه حيث أنا الآن في هذه المقبرة، إعتدت أن أقرأ مناشير الفايسبوك تشير إلى وجود طلاسم وأقفال سحرية هنا، أشجار الصنوبر على الأطراف تشعرني أنّني محاصر، خلفها مقبرة أخرى منذ أكثر من قرن، وعلى الجهة المقابلة منحدر فيه عُثر على آثار ...اقرأ المزيد
أنا برتاح لا شفت شمسان
الحر لا يطاق! الكهرباء منقطعة منذ ساعات، والهواء فاسد وراكد، قد أصابه الكثير من الخمول الذي أصاب كل أهل هذه المدينة المتعبة. “ما الغداء اليوم؟” سمعت سؤال أخي وهو يقرب رأسه من المطبخ الذي تحول إلى حمام تركي لطالما سمعت عنه من الفتيات الباحثات عن عريس المستقبل! توجهت صامتة نحو الفرن وأنا أغالب خفقان قلبي، فقد داهمني الوقت مبكرًا اليوم. أو لأكون أكثر دقة، تأخرت في الاستيقاظ ومازال هذا الصداع يشج رأسي كمطرقة.
أمسكت بالكبريت ويدي ترتجف، وحاولت إشعال عين الغاز. لا شيء! حاولت مرة أخرى، فأدركت بأن الإناء الذي حشدت فيه معظم المكونات لن يتجسد كطعام صالح للاستخدام البشري كما تخيلت. سمعت أخي وقد احتدت نبرة صوته: “لم تطبخي الغداء حتى الآن؟! فتاة لا فائدة منها!”.
لا غاز!
عن أي غاز تتحدثين؟! ألم أقل لكِ بأن الاسطوانة قد أصبحت بثمانية آلاف ريـال!
حسنًا، وماذا أفعل الآن؟!
اطبخي بالحطب! دبري نفسكِ!
أطبخ بالحطب؟! هل عدنا إلى القرية حتى أطبخ بالحطب والفحم؟! تصبب العرق من جبهتي، فشعرت بالقرف من نفسي. متى تمضي الساعات حتى أتخلص من هذا المنزل ولو لساعة؟ سمعت أخي يقول بعدها وهو يبتعد ...اقرأ المزيد
المشهد الأخير
جنديان فرنسيان يقتادان جسدي الهزيل من اعلى ذراعي المكبلتين, الضوء يتسلل في رداء طيف أحمر يخترق عصابة عيني والرمال التي لا استطيع رؤيتها تعانق قدمي الحافيتين و تقفز عليها لتمطرها بالقبلات , مضت سنة على اخر مرة رأيت فيها امواج الصحراء الذهبية, لذلك فالشوق الذي يشع من قلبي ينسيني الم الحرارة اللاذعة .و صفير الرياح يؤنسني في هذه الرحلة نحو المجهول , فجأة يتوقف الجنديان, احدهما يحررني من اغلالي و الاخر يتحرك ليفتح ما يبدو على انه باب خشبي . أحاول التأقلم مع هذه الاضاءة العالية. ثواني قليلة و بدأ مجسم بيت يظهر, اللحظة القادمة تكشف انه مبني من طوب ذي لون ترابي كئيب ,بيت مظلم بلا نوافذ ادفع اليه الان بعنف, ها أنا ذا مجددا بين أربع جدران …لكن… هناك شخص آخر , في الركن هنا , أسمع أصوات أنفاسه المضطربة في كل هذا الفراغ ,ظل مفزوع لا اقوى على تحديد ملامحه.
”أحمد ؟”
هذا الصوت … لا يعقل .. هل بدأت بالهلوسة ؟ هل وضعوا مخدرا في قطعة الخبز اليومية اليابسة ؟ انا اتخيل الان صوت زوجتي , اسمعه بوضوح مقلق
”احمد هل هذا انت؟’’
”فاطمة ؟” اتجهت نحوها بسرعة رغم ارهاقي ...اقرأ المزيد
عندما نَفد الوقود!
نزلت من على السلم في عجالة, و اخذت خطوات سريعة في اتجاه سيارتي, التي كانت تصف بالقرب من بوابة الشركة. كانت خطواتي عشوائية, فأنا بالكاد كنت أرى من وراء الدموع التي تجمعت في عيني و رَفَضَت النزول لتحررني من هذه الغصة التي كنت أشعر بها. ركبت السيارة و استجمعت قواي, و انطلقت لا أعلم الى أين. لم يكن على بالي سوى سؤال واحد, يعيد نفسه مرارا و تكرارا, لماذا أنا؟! لماذا قرروا الاستغناء عن خدماتي الان, و بهذه الطريقة؟! لقد كنت من أكفأ الموظفين و من أكثرهم نشاطا و ذكاءا و تفانيا في العمل. كنت أحصل على التقدير و الاحترام من جميع المديرين. لا يوجد تفسير لما حدث, و لا إجابة لأي سؤال من تلك الأسئله التي تتصارع داخل عقلي. و لكن السؤال الأهم كان, و ماذا بعد, ماذا الآن, ماذا سأفعل في حياتي؟ لقد كان عملي هو محور حياتي, و الآن تلاشى هذا المحور ليختفي في العدم, ليتركني تائهة لا أعلم ماذا سأفعل.
فجأة توقفت السيارة, و لحسن الحظ أنني كنت أسير ببطأ على ...اقرأ المزيد
ســر الملاءة السوداء
قسنطينــة ، 1958
دخل الضابط الفرنسي الشاب الحانــة بحي القصبة متعبا بعد يوم عمل شاق، ثم طلب شرابا، وغرق في ذكرياته …
لم يأت إلى قسنطينــة في الوقت المناسب،جاء في زمن الحرب، وكضابط شاب حريص على تسلق سلم الرتب العسكرية فقد نفذ الأوامر دون أن يسمح للأسئلة بإزعاجه…حتى عندما طلب منه تعذيــب الثوار، وقتلهــم !!
منذ وطأت قدماه المدينة الأسطورية أحس برهبة شديدة…
كانت جالسة بشموخ “عشتار” فوق صخرة عتيقــة تحدها هاوية مرعبة قعرها واد الرمال، وفوق النهر النحيل ألقت جسورها السبعة المراسي إلى الضفة الأخرى التي تربطها بالعالم، وأكثرها تطير على ارتفاع شاهق تحس بسببه بالدوران والخوف.
ورغم هذا فقد أحبها لأنها تأسر القلب بجمالها الأخاذ .. بجسورها الجميلة وأحيائها القديمة التي تتنفس التاريخ، ومناظرها الطبيعية الخلابــة.
قطع حبل تفكيره فجأة صوت أنثوي عذب، فالتفت ليجد بجانبه فتاة جميلة ترتدي فستانا رائعا.
— هل تنتظر أحدا؟
تفاجأ الشاب الباريسي بجرأة تلك الفتــاة،فحتى في باريس النساء لم يصلن إلى هذه الجرأة !
ابتسم ، وقـال :
—لا، أنا وحيد..يشرفني أن أستأنس بمحادثتك.
— حسنا، أنا اسمي “إيزابيلا”.. فرنسية من أصول ...اقرأ المزيد
بائعة الياسمين
في ذلك الصباح، كان المشهد مفجعاً، كئيباً، سحب الدخان، والغبار حجبت ضوء الشمس، الهواء مشبع برائحة الموت، كل شيء يتأوّه، يصرخ، المدينة تمطر أحزانها، مع إشراقة شمس صباح ذاك اليوم.
راح الناس يتوافدون إلى سوق المدينة فغداً هو أول أيّام العيد، وأصبح السوق كخلية نحل، ومن أمام متجري المطلّ على السوق، بدأت أراقب حركة النّاس، وأنظر إلى شجرة الزيتون العتيقة التي تتوسط السّاحة، وأرى فيها مستقبل أولادي، إنها شجرة مثمرة، شامخة شموخ المعتز بوطنه، متمسّكة بالأرض، وارفٌ ظلها، يتفيأ به النّاس.
غصّ السّوق بالنّاس، نساء، شيوخ، أطفال فرحينَ باختيار ثياب العيد، الكل يستعدّ ليوم الغدّ، لأول مرة أستمتع بضجيج المدينة، وضوضائها.
من بعيد تراءت لي الطفلة بائعة الياسمين، يستوقفها أحدهم، ليبتاع منها طوق ياسمين، تطير بجناحيها فرحاً كالفراشة، تحط أمام واجهة أحد المحال، لتختار لنفسها ثوباً، تتمايل أمامه، تلصق وجهها بالزجاج، تتراجع، تلف حول نفسها، وتحلق بجناحين من حلم، وفرح.
وولدي يقف بجانبي
ـ أبي، هل ستأخذنا إلى مدينة الألعاب؟
ـ نعم، احتضنني، قبّلني، لفحتني أنفاسه، قشعريرة تخترق جسدي.
من بعيد صوت هدير طائرات.
انفكّت ذراعيه عن عنقي، دخل مسرعاً، جلس تحت الطاولة، أغرق جسده بين ركبتيه، أختصره بأصغر حجم ممكن كي لا تطاله ...اقرأ المزيد