المشهد الأخير

Reggane, Algeria

جنديان فرنسيان يقتادان جسدي الهزيل من اعلى ذراعي المكبلتين, الضوء يتسلل في رداء طيف أحمر يخترق عصابة عيني والرمال التي لا استطيع رؤيتها تعانق قدمي الحافيتين و تقفز عليها لتمطرها بالقبلات , مضت سنة على اخر مرة رأيت فيها امواج الصحراء الذهبية, لذلك فالشوق الذي يشع من قلبي ينسيني الم الحرارة اللاذعة .و صفير الرياح يؤنسني في هذه الرحلة نحو المجهول , فجأة يتوقف الجنديان, احدهما يحررني من اغلالي و الاخر يتحرك ليفتح ما يبدو على انه باب خشبي . أحاول التأقلم مع هذه الاضاءة العالية. ثواني قليلة و بدأ مجسم بيت يظهر, اللحظة القادمة تكشف انه مبني من طوب ذي لون ترابي كئيب ,بيت مظلم بلا نوافذ ادفع اليه الان بعنف, ها أنا ذا مجددا بين أربع جدران …لكن… هناك شخص آخر , في الركن هنا , أسمع أصوات أنفاسه المضطربة في كل هذا الفراغ ,ظل مفزوع لا اقوى على تحديد ملامحه.

”أحمد ؟”

هذا الصوت … لا يعقل .. هل بدأت بالهلوسة ؟ هل وضعوا مخدرا في قطعة الخبز اليومية اليابسة ؟ انا اتخيل الان صوت زوجتي , اسمعه بوضوح مقلق

”احمد هل هذا انت؟’’

”فاطمة ؟” اتجهت نحوها بسرعة رغم ارهاقي , كان لي اجنحة ترفرف بي اليها , و حالما احسست بحرارة جسدها حضنتها لأجمع كل قطعة منها في داخلي. اجل انها هي, ليست سرابا ولا حلما ,هذه فاطمة …

”أحمد … يريدون ابادتنا بقنبلة نووية.. لقد سمعتهم ,يستخدموننا كفئران تجارب” أتى صوتها المرتجف ليؤكد شكوكي.

” أتدرين يا فاطمة , لا يهم , لا يهم أبدا , ما كان يخيفني حقا هو الذهاب عن هذا العالم بدون وداع , بدون أن أراك, بدون أن أرى صحراء رقان أو أتنفس هوائها ,أن أموت بعيدا عن هذه البلدة ,قدري كان مختوما لذا في الطريق بين السجن و هذا المكان أحسست بالحياة  كما لم يحس بها رجل قط ,لكن أنت, هل تسامحينني على جرك لهكذا مصير ؟ ‘’

” أحمد , سنعد من الشهداء أليس كذلك ؟ اذن يا زوجي الذي لطالما تذمرت من ذوقه السيء في اختيار الهدايا دعني أسحب كلامي. فاليوم ستقدم لي أغلى هدية في الوجود ”

كلماتها أثلجت صدري لفتني براحة غريبة , باسترخاء تام , زادني قوة و صمود, و لأننا كنا نملك كل الوقت رغم أنه كان ضيقا كهذه المساحة التي حشرنا فيها قررنا أن نتحدث , أن نستحضر الماضي و نسافر للمستقبل أن نضحك على نكاتنا السخيفة و أن نخذل توقعاتهم بكسرنا , كنت أسالها عن أسماء أولادنا اللذين لم ينجبوا بعد , عندما تجمد الوقت عندما صار قلبي يستغرق دقائق لينقبض, صوت مهول يحرك كل الخلايا بداخلي ,الافكار تتدفق كشلال ضخم, انها نهايتنا , لكنها ليست نهاية الوطن ,ليست نهاية الجزائر, ما لا يعرفه الكثيرون هو أنني سجنت بسبب هذه القنابل , لأنني مع مجموعة من “المجرمين” أمثالي , كشفنا مخططاتهم , و حطمنا أسرارهم , اليوم سأموت , و ستحيى مذكرات شخص مجهول تحمل شهادة وحشيتهم ,ستحكي هذه البقعة حكايتنا للأبد ستعيش أرواح الضحايا في حبات الرمل, ستغني هذه الارض للقادمين أسمائنا . ستهمس لهم هذه الصحراء بحرقة أشد على جسد فاطمة وأبتسم , نحن المبادون بنار الحرب, نحن أوراق الخريف, تتساقط برقصة ,و نموت بابتسامة .

 

بقلم المؤلف اخلاص لعجال