عددهم تسع عشرة طفلا، تحت ضوء الشموع اصطفوا جلوسا على مقاعد الكنيسة آخذين في التهام الحساء غير آبهين لنصائح الأب جون بول بالحرص على تغذية أجسادهم النحيلة لحمايتها من مرض السل المنتشر. عندما تيقنَ أن كلامه لا يتعدى آذانهم انسحب الأب نحو تمثال العذراء وجثا على ركبتيه في مواجهتها داعيا ألا يعود فادي إليهم حتى لا يضطر إلى طرده، ومتمتما بكلمات لا يسمعها الأطفال المنشغلون بالعشاء وبحديثٍ يتناقلونه حول الأوضاع خارج أسوار الكنيسة، أسفل الربوة التي تعتليها، في الجزائر العاصمة وباقي المدن، حيث قضت المجاعة والأوبئة على ثلثي الشعب في ظرف ست سنوات تاركة البلاد خالية من الأطفال والمسنين كما مات الكثيرون بنار الحرب التي اندلعت من أجل البقاء على قيد المجاعة. نفاذُ النفط من جوف الصحراء جاء قاصما لظهر الاقتصاد الهزيل المتداعي تداعي أسعار النفط.
صارت هذه البلاد منطقة محرمة إلى أن تتوقف الحرب ويتم القضاء على الأوبئة المنتشرة.
نبوءة الأب جون بول كانت صحيحة حين قام قبل عامين بعزل عشرين من أطفال المدينة داخل كنيسة السيدة الإفريقية لحمايتهم من عدوى مرض السل هو الذي كان يعمل على الكشف ...اقرأ المزيد
الجزائر
قصص قصيرة
جدار يريد أن ينقضّ
أرض الينابيع الملعونة
في زَمَانٍ بعيدٍ، لا أَحَدَ يعرفُ مَتَى حَدَثَ ، لَكِّنَهُ حَدَثَ على هذه الأَرْضِ الَّتي تَشْهَدُ مَعَالِمُهَا وتَضَاريسُهَا على تِلْكَ اللَّيْلَةِ الغَريبَةِ وَتُذَكِرُنا بأحْدَاثِها وشُخُوصِها كأنها كانَتْ لَيْلَةَ البَارِحة. حِكايَةُ هذا المكان بَدَأتْ مع تِلك اللَّيْلَة، لكنَّها لم تَنْتَهي مَعَها، فأسْرَارُ هذا المكَانْ مازالَتْ تَعيشُ بَيْنَنَا. حِكايَةُ هذا المكان حِكَايَةُ فَارِسٍ شابٍ وُهِبَ كُلَ الصِّفاتِ الجَمِيلَةِ من قُوَة ٍوحُسْنٍ وبَهاءٍ وجَسَارَة . كان أبوه زَعِيمَ قَبيلَةٍ قَوِيَةٍ حَلَّتْ بهذا المَكَانْ، وَطَابَ لها المقَامُ فيه فالأرضُ كثيرةُ الخيراتِ ووافرةُ المياهِ، وكان الجَميعُ يعيشون فيها في رَغَدٍ ورَخاءٍ وسَعَادة، إلى أن أَلَّـمَ بزعيمِ القبيلةِ مَرَضٌ مُفاجِىءٌ ومَاتَ على إثرِه وحَزُنَ الجميعُ لهذا المصابِ. ولكن كان على شيوخِ القبيلةِ أن يعيِّنوا وَلَدَهُ زعيمًا للقبيلة خلفًا له. وكان على هذا الفارسِ الشاب أن يُحَقِقَ شرطًا حَدَّدَهُ أَسْلافُ القبيلة، وهُو أن يتزوج ليلة تعيينِه زَعِيمًا بأُنثى تَفوقُه جمالًا وتُكافِؤه حَسَبًا ونَسَبًا. كان على هذا الفَاِرسِ أن يَعْثُر على امرأته بسُرْعَةٍ وأنْ يَعقُدَا قِرانَهُما في حَفْلٍ تَوَلِيه الزَّعامَة، لم يكن في هذه القبيلة أيُ أُنثى تفوقُ هذا الفتى جمالا ولا مَنْ تُكافِؤه حَسَبًا ولا نَسَبًا. شَغَلَ الخَوْفُ بِضَيَاعِ الزَّعَامَة عائلةَ الفارسِ والمقَرَّبين مِنْه. وبينما هم ...اقرأ المزيد
ساحة الأسود
البعض يدعوها بساحة أول نوفمبر، والبعض يدعوها بساحة السلاح (place d’armes)، لكن الأغلبية حولوا اسمها في اللفظ الشعبي إلى (place dames) ثم ترجموها جزافا إلى ساحة النساء، ساحة لا تقعد فيها امرأة واحدة.
لكن بالنسبة لي، هي ساحة الأسود، المكان الذي يقف فيه أسدان شامخان هما رمز المدينة، مترفعان عن كل الضجيج تحتهما، أسميت الأول شمس، والثاني قمر، إسمان مبتذلان أتت بهما طفلة، لكنني تعلمت أن الأشياء جميعها لها أرواح، يكفي أن تجد اسمها لتتحدث إليك…
لم يكن أبي من علمني هذا الدرس، فهو كان يكره الأسدين، يراهما صنمين سيجلبان خراب المدينة، ولم يعلمني إلا شيء واحدا في حياته، أن الله يغفر الذنوب كلها إلا أن يشرك به، لم يشرك أبي، لكنه ارتكب ما دون ذلك جميعا…
معلمي في الحقيقة رجل لا أعرفه، كان يصر أن الأسماء شر لا هدف له إلا تفريق البشر، فتخلى عن اسمه، أذكره دوما في ذات الصورة، قميص ذهب كل لونه ثم اسود من النوم على الأرصفة، شعر قذر ووجه تكاد لا تتبينه تحت طبقات التراب، كنت أصغر من أحكم بالمظاهر فأحببته، وهو بدوره علمني كيف أحب…
-“إنها تحبك” قال مرة وهو يحدق في الأسود
-“أحبها أيضا”
-“كلا، ...اقرأ المزيد
أبي لن يعود
—لِكِيْ، لِكِيْ، لِكِيْ..
—ماذا دهاك؟
—أسمعُ صوت قلبك الخفيْ.
—لستَ ماموثا يا رجل، لا تُصدِّق كلّ ما تسمع!
—وما علاقة الماموث بالموضوع؟
—الماموث لديه قابلية عالية لتصديق أيّ شيء، لذلك لم يستطع حماية نفسه من الانقراض، كان يسمع الاشاعات عن قدوم عاصفة ثلجية، فيمكث في الداخل حتى يتجمّد! الماموث لا يواجه..
—مسكين!
—حسنا، أنت لديك حسّ مرهف، تحتاج إلى الغناء.. إبدأ الآن وغن لي “تيرا را را” بصوتك الجميل..
—“لِكِيْ” أرجوك توقف واجلس إليّ، لا أدري حتّى كيف تجرؤ على مقابلتي بكلّ هذه الحياة، وكأنّك تريد أن ترقص! أن تطير.. قد كنت حزينا لأجلك كثيرا، كثيرا..
—هـِـيْ …! يا قلبي على النور في عيونك، هذا البريق في عينيك يذكرني بشيء ما، قل لي من أنت وماذا تفعل في الأرجاء؟
—هل تحسب أنّها منطقتك المحروسة..؟
—إجلس، إجلس إليّ..
منذ أن دخلت هذه المدينة “بئرقاصدعلي” لم أكن مرتاحا، الناس هنا سُباتيون والمشعوذون كثر، أسوأ مكان يمكنك أن تكون فيه حيث أنا الآن في هذه المقبرة، إعتدت أن أقرأ مناشير الفايسبوك تشير إلى وجود طلاسم وأقفال سحرية هنا، أشجار الصنوبر على الأطراف تشعرني أنّني محاصر، خلفها مقبرة أخرى منذ أكثر من قرن، وعلى الجهة المقابلة منحدر فيه عُثر على آثار ...اقرأ المزيد
المشهد الأخير
جنديان فرنسيان يقتادان جسدي الهزيل من اعلى ذراعي المكبلتين, الضوء يتسلل في رداء طيف أحمر يخترق عصابة عيني والرمال التي لا استطيع رؤيتها تعانق قدمي الحافيتين و تقفز عليها لتمطرها بالقبلات , مضت سنة على اخر مرة رأيت فيها امواج الصحراء الذهبية, لذلك فالشوق الذي يشع من قلبي ينسيني الم الحرارة اللاذعة .و صفير الرياح يؤنسني في هذه الرحلة نحو المجهول , فجأة يتوقف الجنديان, احدهما يحررني من اغلالي و الاخر يتحرك ليفتح ما يبدو على انه باب خشبي . أحاول التأقلم مع هذه الاضاءة العالية. ثواني قليلة و بدأ مجسم بيت يظهر, اللحظة القادمة تكشف انه مبني من طوب ذي لون ترابي كئيب ,بيت مظلم بلا نوافذ ادفع اليه الان بعنف, ها أنا ذا مجددا بين أربع جدران …لكن… هناك شخص آخر , في الركن هنا , أسمع أصوات أنفاسه المضطربة في كل هذا الفراغ ,ظل مفزوع لا اقوى على تحديد ملامحه.
”أحمد ؟”
هذا الصوت … لا يعقل .. هل بدأت بالهلوسة ؟ هل وضعوا مخدرا في قطعة الخبز اليومية اليابسة ؟ انا اتخيل الان صوت زوجتي , اسمعه بوضوح مقلق
”احمد هل هذا انت؟’’
”فاطمة ؟” اتجهت نحوها بسرعة رغم ارهاقي ...اقرأ المزيد
ســر الملاءة السوداء
قسنطينــة ، 1958
دخل الضابط الفرنسي الشاب الحانــة بحي القصبة متعبا بعد يوم عمل شاق، ثم طلب شرابا، وغرق في ذكرياته …
لم يأت إلى قسنطينــة في الوقت المناسب،جاء في زمن الحرب، وكضابط شاب حريص على تسلق سلم الرتب العسكرية فقد نفذ الأوامر دون أن يسمح للأسئلة بإزعاجه…حتى عندما طلب منه تعذيــب الثوار، وقتلهــم !!
منذ وطأت قدماه المدينة الأسطورية أحس برهبة شديدة…
كانت جالسة بشموخ “عشتار” فوق صخرة عتيقــة تحدها هاوية مرعبة قعرها واد الرمال، وفوق النهر النحيل ألقت جسورها السبعة المراسي إلى الضفة الأخرى التي تربطها بالعالم، وأكثرها تطير على ارتفاع شاهق تحس بسببه بالدوران والخوف.
ورغم هذا فقد أحبها لأنها تأسر القلب بجمالها الأخاذ .. بجسورها الجميلة وأحيائها القديمة التي تتنفس التاريخ، ومناظرها الطبيعية الخلابــة.
قطع حبل تفكيره فجأة صوت أنثوي عذب، فالتفت ليجد بجانبه فتاة جميلة ترتدي فستانا رائعا.
— هل تنتظر أحدا؟
تفاجأ الشاب الباريسي بجرأة تلك الفتــاة،فحتى في باريس النساء لم يصلن إلى هذه الجرأة !
ابتسم ، وقـال :
—لا، أنا وحيد..يشرفني أن أستأنس بمحادثتك.
— حسنا، أنا اسمي “إيزابيلا”.. فرنسية من أصول ...اقرأ المزيد
ذاكرة شارع …
صباح خريفي جميل، يذكّرك و أنت خارج من منزلك بمناظر لا تراها العين إلا و أنت سعيد كل السّعادة،… صباح يغشاه ضباب خفيف أضفى على المكان هدوء و وقارا لا تلمحه إلا في جلابيب الزّهاد والنّساك…صباح خريفي كله ترقّب لما سيأتي بعد الصباح، علّها الشمس الدافئة التي تبثّ أشعتها لتصل إلى أبعد قطب في الأرض كل الأرض، فتنير الطريق و تفتح بكل تجبّر و قوة أستار الضباب و تقطّعها إلى أجزاء متناثرة ستحملها الريح بعد ضعفها… و في ذات الصباح الخريفي، كان “خالد” قد استعد للتجوّل في أزقة الحي الشعبي القديم، علّه يلتقط شيئا جديدا من كل ذلك الكم الهائل من القديم الذي يلفّ المنازل كما يلف الأشياء المعروضة للبيع أو المعروضة لتزيين الواجهات، أو من كل ذلك القديم الذي صار يؤرق يومياته العابسة، فلا يعدو أن يميّزه الإسفاف و الحزن الذي ألمّ به مذ رحل عنه أعز مخلوق في الوجود، بل أعز مخلوق كان لوجوده معنى في وجود خالد، تاركا كل شيء كما كان منذ أن فضّل الرحيل إلى الأبد، و كأن يوم الرّحيل هو نفسه اليوم الخريفي الذي يعيشه خالد… ...اقرأ المزيد
دمّ العذراء
أستيقظُ متأخرا. مثل صيّب شهوة عارمة أيقظني. أتحسسُ مفاصلي، أرطبّ شفتيّ بلساني وأفكر في أن اليوم ليس باليوم العادي، سألتقي “لويزة” بعد العصر. أول مرّة تعدني فيها امرأة بأن تغدق عليّ بشيء من لحمها ودمها، مجرد التفكير في هذا يجعل مسحة تحفز عاتيّة تجتاح جسدي. قالت أننا سنلتقي في “ليبانغالو” وأنا رحبتُ بغبطة وحماس، بلغتُ العشرين والمرء في هذا العمر تسكنه جذوّة ملحاحة لاختبار رجولته، في العشرين لا يصبح الالتفات للخلف ممكنا لاسيّما في هذا المدينة المنتفضة، إما الضحالة أو التميّز على قول كولن ولسون.. نزلتُ سلالم العمارة المسكونة بالصدأ، نثرتُ نظراتي المتقدة على جزء المدينة الظاهر أمامي، ساعة الساحة الكبرى تُشير الى الثانية بعد الظهر، تقل حركة الساكنة في هذا الوقت من شهر ايلول، يركب الأطفال مدارسهم ويتجه البعض إلى دوالي العنب بالقرب من “دواودة” لقطفها.. أمرّ على ماخور المدينة القديم، مبنى كولونيالي مهدّم في بعض جنباته تصرّ السلطات على تطهيره من مريديه المكبوتين، بينما يناور هؤلاء لاستبقائه، لم ألجه يوما برغم دعوات الأصدقاء الحثيثة، لا أحبّ تلكم الفتيات اللاتي يضعن أصباغاً كثيفة على وجوههن فيُمسين مثل جنيات بحر مَجّهن من أعماقة مطرودات. أُراكم الرغبة وأنا أمرّ قُبالة حي بانوراما الآيل للسقوط، يرقب الشيوخ والنساء ...اقرأ المزيد
الفوّارة
لطالما توكّأ منسأته وخرج باكرا ، ولطالما اعترضت طريقه ، فيمر بمحاذاتها يتمتم بكلمات منها المفهوم ومنها المبهم ..تلك المرأة السّافرة التي تعتلي نبع الماء المجاورللمسجد العتيق وسط المدينة، احتلت المكان قبل أن يولد هو بأعوام ، ظلّت تعترض طريق المارين كما يظن، أوكما يوحي إليه خياله العالق في شقاوة وهم طال أمده، استحالت عقدة تنغّص عليه أيامه وتشوّه حسن المدينة ! إنّها تقف في طريق تسوّقه أو خروجه إلى ساحة المقهى القريب كلّ صباح. غالبا ما يتوقف قبالتها يمطرها بوابل من الشتائم ثم يبصق على وجهها ويمضي لسبيله.
صارت تلك عادته مذ شبّ وعرف معنى العار والفتنة .إنّه سي الحاج عجوز تخطّى عمره السبعين عاما، كان صاحب مقهى لكنه حين كبر تخلى عنه لأبنائه . ينادونه في المدينة سي الحاج لأنه درس في صغره بالمدرسة القرآنية، وكل من يدرس بها يعلق له الناس ال”سي” وساما للعلم فيلحقونها باسمه ، فصار اسمه من الحاج إلى سي الحاج.
في صغره لم يكن يكترث لها، يمضي وقته مع أقرانه في اللعب واللهو دون مجاراتها أوالإنتباه إلى مفاتنها ، يأتون ماء النبع يشربون ويغتسلون ثم يرحلون، لكنّه حين شبّ صار يتحاشى النّظرإليها، يغضّ بصره أو ...اقرأ المزيد
بنتُ الرّومي
هذه القصّة مستوحاة من البحث في تاريخ قصّة القصر المبني على أرض مدينة بليمور (تاماسكاني في الفترة الرّومانية)، وهو يحاكي القصّة الحقيقيّة لبناء وتشييد القصر الجميل..
صبّحك الله بخير يا مدينة سيدي عقبة السّاحرة !، أمّا أنت يا بيلا بنت الرّومي؛ فغنّي وارقصي على أنغام نسيم هذا الصّباح، واطلبي من والدك ما شئت فالزّيت من الزّيتونة والسّمك من البحر، والأرض صارت لك، خلى لك الجوّ فبيضي ونقّري أيّتُها الحسناء !..
نم يا سيدي عقبة في رمسك نوم قريرِ العين لأنّنا سنعودُ غدّا حاملين أحلامنا على أكفّنا وأعيننا على قبرك كي لا تنتهك حرمة موتانا على هذه الأرض..
قصُور المدينة تنتصب شامخة شموخ أهلها رغم نوازل الدّهر ودورة الأيّام.. الجمال السّاحر الفتّان يأسر قلب بيلا الجميلة فتروم من والدها تري بنعله الأسود المتعالي بناء قصر يشبه ما رأت في سيدي عقبة على أرض سيريز، عفوا على أرض تاماسكاني !.. يتلكّأ الوالد، يتردّد لكنّه يرضخ في نهاية المطاف لمطلب ابنته الصّبيحة..
جاء الخمّاسة، بدأوا بالحفر أعلى تلّة مطلّة على غابة من الأشجار الكثيفة، يبدو أنّ القصر سيحتلّ مكانا مواتيا مثلما احتلّ تري وابنته وبني جلدته قلوب جدّي والآخرين حنقا وبؤسا.. أزاحوا بعض الحجارة الكلسيّة ...اقرأ المزيد